ظاهرة التسول وواجبنا نحوها
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
ظاهرة التسول وواجبنا نحوها
الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً . أمّا بعد :-
فاتقوا اللهَ تعالى ، فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
عباد الله : لقد حرص الإسلام على حفظ كرامة الإنسان ، وصون نفسه عن الابتذال والتعرض للإهانة ؛ والوقوف بمواقف الذل والهوان ، فحذّر من التعرض للتسول الذي يتنافى مع الكرامة الإنسانية التي خصها الله تعالى للإنسان ، فقال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) . فالتسول ظاهرة قبيحة و وباءٌ خطيرٌ تُسيء إلى سمعة المجتمع ، وتُعكر صفوه وتُشوه صورته ، وتهدده بالخراب ، وتجعل المتسول يظهر بصورة المحتاج والذليل . وهو نوعُ من أكل أموالِ النّاسِ بالباطلِ .
والتسول ظاهرة لا يخلو أي مجتمع منها ، بل أصبح التسول شبكات وشركات شبه منظمة ، وتكثر في المواسم ، وللتسول صور عديدة ، منها التسول في المساجد وعند إشارات المرور وفي الأسواق ، يستخدمون أساليب في استعطاف الناس من ارتداء ملابس بالية أو حمل الأطفال ، وإنّ هذا النوع من التسول قد يدفع الأطفال إلى التسرب من المدرسة ويعرضهم إلى مظاهر الاستغلال ، بل إلى مخاطر الانحراف والإجرام ، خصوصا إذا كان المتسول فتاة أو امرأة . ونوع آخر من التسول الآثم ؛ يظهر في بعض الفقراء الذين اعتادوا أخذ الزكاة كل سنة في رمضان من بعض الأغنياء ، وترى بعضهم يتحسن وضعه المادي ، ولكنه يستمر في أخذ الزكاة . ونوع ثالث من التسول الآثم ؛ يظهر في بعض الناس الذين يتقدمون إلى الجمعيات الخيرية فيسألون المساعدة وعندهم ما يغنيهم .
وقد حَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن السُّؤالِ ، وبين أن من سأل الناس تكثراً ، ومدَّ إليهم يده كذباً وزوراً ، فالوعيد في حقه كبير ، والإثم والجزاء في عمله خطير ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِهَا قِلَّةً ) رواه البيهقي ؛ وصححه الألباني ، قال المناوي رحمه الله تعالى : ( وما فتح رجل باب مسألة ) أي طلب من الناس يريد بها كثرة في معاشه ( إلا زاده الله تعالى بها قلة ) بأن يمحق البركة منه ويحوجه حقيقة .
كما أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ مَن طَلَب مِنَ النَّاسِ إعطاءَه مِن أموالِهم دونَ حاجةٍ أو فَقْرٍ منه ، وإنَّما يَطلُبُ المالَ لِزِيادَةِ مالِه وتَكثيرِه ، فإنَّ نَتيجةَ هذا السُّؤالِ أنْ يكونَ هذا المالُ في الآخِرَةِ جَمْرًا يُصلَى به ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا ، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ ) صحيح مسلم . أي لِيَأْخُذِ السَّائِلُ قَليلًا مِن ذلك الجَمْرِ ، أو لِيَأْخُذِ الكثيرَ منه ، والأمرُ للتَّهديدِ والوعيدِ والتَّهكُّمِ . وفي روايةٌ أُخرَى : « فإنَّما يَسأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ » . وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ : « لا تَزَالُ المَسأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى ولَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ » متفقٌ عَلَيْهِ . ففي هذا الحديثُ بَيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الإنسانَ الذي يَسأَلُ الناسَ عن غَيرِ فَقْرٍ وَفاقةٍ ، وإنَّما يَسأَلُ تَكثُّرًا ، ويُذِلُّ نفْسَه ، ويَمتهِنُ كَرامتَه الَّتي أوجَبَ اللهُ عليه صِيانتَها ؛ يَغضَبُ اللهُ عليه ، فيُذِلُّه ويُهِينُه يومَ القيامةِ كما أذَلَّ نفْسَه في الدُّنيا ، ويَفضَحُه على رُؤوسِ الأشهادِ ، فيَسلَخُ له وَجْهَه كلَّه ، حتَّى يَأتيَ أمامَ النَّاسِ وليس في وَجْهِه قِطعةُ لحمٍ ؛ جَزاءً وِفاقًا لِما فَعَله في الدُّنيا مِن إراقةِ ماءِ وَجْهِه . وعن عبد الله بن مسعود رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل النَّاسَ وله ما يغنيهِ جاء يومَ القيامةِ ومسألتُه في وجههِ خُموشٌ أو خُدوشٌ أو كُدوحٌ » أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه . فمن طلَب حاجتَه من الناس دُونَ وجهِ حَقٍّ ولم يُعِفَّ نفْسَه ، وعِندَه ما يَكْفيه عن سؤالِ النَّاسِ ، جاء يومَ القيامَةِ وأثَرُ مَسأَلتُه كالجُرحِ في وَجهِه ، علامة يُعرَفُ بها يومَ القيامةِ أنَّه ممَّن كان يَسأَلُ النَّاسَ في الدُّنيا .
عبادَ اللهِ : المالُ مِن فِتَنِ الحياةِ الدُّنيا التي يَنْبغي لِلمُؤمِنِ أنْ يَصُونَ نفْسَه عن الحِرصِ عليه ، ويَحترِزَ مِن أنْ يَطلُبَه بغَيرِ ما أحلَّ اللهُ ، أو يُنفِقَه في غَيرِ مَرضاتِه . فقد ورد في الحديث عن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه قال لحَكِيمِ بنِ حِزامٍ رضي اللهُ عنهُ : « إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ ، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ » أخرجه البخاري ومسلم . أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه وتوبوا إليه ؛ إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :-
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بالحث على العمل والاكتساب ، وأن على كل فرد قادر أن يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقومات الحياة ، فالله تعالى قد قدَّر الأرزاق وكتبها ، وعلى المرء أن يأخذ بالأسبابِ الممكنة لتحصيل رزقه ، وأن لا يبقى خاملاً عالة على الناس . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ ، فَيَحْطِبَ علَى ظَهْرِهِ ، فَيَتَصَدَّقَ به ويَسْتَغْنِيَ به مِنَ النَّاسِ ؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ رَجُلًا ، أعْطاهُ ، أوْ مَنَعَهُ ذلكَ ، فإنَّ اليَدَ العُلْيا أفْضَلُ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى ، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ ) أخرجه البخاري ومسلم . وعن المِقْدَامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه ، عن النَّبيّ ﷺ قال : ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قط خَيْرًا مِن أَن يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّه داودَ ﷺ كَانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ ) رواه البخاري . وعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ : أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ ؟ قَالَ : ( عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ ، وكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ ) . رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ . فعلى الإنسان أن يعمل ولو كانت أجرته قليلة ؛ فهو خير له من سؤال الناس . والقادر على العمل والاكتساب لاتحل له الصدقة ، ويحرم عليه سؤال الناس . فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي اللَّه عنهما : أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ : « لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ » أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه الألباني .
عباد الله : إن الدولة تبذل جهوداً للحد من ظاهرة التسول والقضاء عليها ، ولكن تعاطف البعض مع المتسولين ، شجعهم على التمادي في سلوكهم السلبي وغير الأخلاقي ، وقد لا يعلم كثيرون أن غالبية المتسولين لا يعملون بشكل منفرد ؛ بل ينتمون إلى عصابات منظمة تتولى توجيههم وتوظيفهم للعمل فترات طويلة قد تمتد طوال النهار أو الليل لجمع أكبر قدر من المال الذي قد يتم تهريبه بطرق غير شرعية ، أو تحويله إلى جهات معادية أو إرهابية . فعلى الجميع عدم التهاون في دعم المتسولين ، والتعاطف معهم ، لأن ذلك يساعد على استمرارهم في هذه المخالفة وانتشار أعمالهم غير النظامية ، فعلى الجميع التكاتف مع الجهود المبذولة لمكافحة التسول ، والتوقف عن إعطاء أي متسول . كما أن على الأئمة والخطباء والمؤذنين منع أي شخص من التسول داخل المسجد أو في محيطه ، وإبلاغ الجهات الأمنية فوراً عند ملاحظة ذلك .
كما أن الواجب على المسلم أن لا يدفع زكاته إلا لمن تحل له الزكاة ، وأن يبذل غاية جهده في تحري المحتاجين للزكاة والصدقة ، الذين يمنعهم الحياء والعِفَّة من سؤال الناس ، كما قال الله تعالى في وصفهم : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } . فاحرص أن تتحرَّى في صدَقتك وزكاتك ، ولا تُعطها كل سائل ؛ لكثرة المتسولين الكاذبين . اللهم اجْعلَنا مِنَ القانِعين برزقِكَ ، الراضِينَ بقضائِكَ ، المتَّبِعِينَ لنبيِكَ ، اللهم لا تجعلِ الدُنيا أكبرَ هَمِّنا ، ولا مَبْلَغَ علمنا ، ولا إلى النار مصيرَنا ، واجعـل الجنةَ دارَنا وقرارَنا . اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمّد ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة : أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر صحابة نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين ، وعنّا معهم بعفوك وجُودِك وكرمك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى . ونعوذ بك من الفقر ، ونسألك رضاك والجنة ، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه ، ورد كيده في نحره ، واجعل تدميره في تدبيره . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفِّقْ إمامَنا ووليَّ عَهدِه لما تحبُّ وترضى وخُذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى ، اللهم ارزقْهمُ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهم على الخيرِ وتُعينهم عليه ، اللهم ووفق جميع ولاة أمور المسلمين واجعلهم رحمة لرعاياهم ، اللهم احفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة يارب العالمين ، اللهم اغْفرْ لنا ولوالدينا ولجميع المسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ برحمتك يا أرحم الراحمين ( ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ ) وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 15/8/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1739308903_ظاهرة التسول وواجبنا نحوها.docx