عاشوراء وتربية النفوس على الثقة بالله.
أسامة بن سعود عبد الله التميمي
عاشوراء وتربية النفوس على الثقة بالله.
﴿الخُطْبَةُ الأُولَى﴾
الحمدُ للهِ الأوَّلِ الَّذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخِرِ الَّذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ، والظَّاهِرِ الَّذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، والبَاطِنِ الَّذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، كتبَ النَّصرَ لأوليائِه، ووَعَدَهم الفَرجَ بعدَ الشِّدَّةِ، وجعلَ العاقبةَ للمتَّقين.
نحمدُهُ سبحانه ونستعينُه، ونستغفرُهُ ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا،
مَن يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين، ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد، عبادَ اللهِ:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
أيُّها المؤمنون:
ها نحن في شهرٍ عظيمٍ من أشهرِ اللهِ الحُرُم، شهرٍ ابتدأ الله به السَّنةَ الهجرية، شهرٌ سماهُ رسولُ الله ﷺ: "شهرُ اللهِ المُحرَّم"، فافتتح العامَ بذكرِ الله وطاعتِه، وليكنْ عامُنا هذا خير مما قبله فإن الموفق كلما قرب إلى أجله كلما زاد عمله واجتهاده وصلاح ومعلوم أن كل واحد منا في كل يوم يقترب إلى أجله المعلوم والله المستعان..
وقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«أفضلُ الصيامِ بعد رمضان، صيامُ شهرِ اللهِ المُحرَّم»،
فيا من قصَّرتَ في العامِ الماضِي، افتح هذا العامَ بصيامٍ، يُطهّرُ ما مضى، ويهيّئ قلبك لما بقى..
عبادَ اللهِ:
يومُ عاشوراء، اليومُ العاشرُ من هذا الشهر، يومٌ له في تاريخِ الإيمانِ شأنٌ عظيم؛ ففيه نصرَ اللهُ نبيَّه موسى عليه السلام، وقومَه المؤمنين، على الطاغية فرعون وجنوده الظالمين.
قال تعالى:
﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾
فكان الفتحُ العظيم، فانفلق البحرُ، ونجا أهلُ التوحيد، وهلك أهلُ الطغيان.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ فرأى اليهودَ يصومونَ عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومٌ نجَّى الله فيه موسى وقومَه من فرعون، فصامه موسى.
قال: فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه، وأمرَ بصيامِه".
وقد قال ﷺ كما في مسلم:
«وصيامُ يومِ عاشوراء، أحتسِبُ على الله أن يُكفّرَ السنةَ التي قبلَه».
فصوموا عباد الله هذا اليوم، وهنيئا لمن صام يوما قبله أو بعده، مخالفةً لليهود، كما ثبت عن النبي ﷺ:
«لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع».
أيُّها الأحبّة:
ليست عاشوراء ذكرى فقط، بل مدرسةٌ من الإيمان، ودرسٌ في النصر والتربية، فمن تأمَّل قصةَ موسى عليه السلام وجد فيها وصايا عظيمة، نذكر منها في وقفات:
الوقفة الأولى: علَّمتني قصةُ موسى… أنَّ التوحيدَ حياةٌ ونَجاة
نجا الله موسى وقومه لأنهم أهل توحيد، وأهلك فرعون لأنه طغى وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾
فيا عباد الله ، لا تعلّقوا قلوبَكم بالبشر، بل علّقوها برب البشر من بيده ملكوتُ كلِّ شيء.
وأحسنوا الظن بالله كما كان حال موسى عليه السلام حين قال : ( كلا إن معي ربي سيهدين) فكان الله عند ظنه عز وجل فما خاب من توكل على الله وأحسن الظن به جل جلاله.
🟩 الوقفة الثانية: علّمتني قصة موسى… أن النصرَ يأتي بعد الشِّدة
قال أصحابُ موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، فردّ عليهم موسى بثقةٍ ويقين: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
فمن ضاق عليه أمرُه، وتكالبت عليه الهموم، فليثبتْ، فالفرج مع الصبر، والسعة مع الكرب وإن مع العسر يسرا فإن مع العسر يسرا..
🟩 الوقفة الثالثة: علّمتني قصة موسى… أنَّ المربي الناجح هو الذي يربِّي قبل أن يَأمر..
كان موسى يُربّي قومه على الصبر والتوكل ( قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والمجتمع لا يصلح إلا بتربية القلوب قبل الأجساد، وهكذا إذا أردت تربية أبنائك، غذي قلوبهم قبل أجسادهم، ليمتثلوا ما أوجب الله عليهم..
🟩 الوقفة الرابعة: علّمتني قصة موسى… أن الخوفَ طبيعي، لكن الثقةَ باللهِ تكسِرُه
قالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ خوفًا، وهو خوفٌ فِطري، لكن موسى رفعهم بالإيمان، وعلّمهم أن وعدَ الله لا يُخلف، فربُّ موسى وربُّنا لا يعجزه شيء، فتوكل عليه واعلم أنه مهما ضاق أمرك فإن عنده المخرج فلا تيأس..
🟩 الوقفة الخامسة: علّمتني قصة موسى… أن الشكرَ يكون بالطاعة لا بالمعصية، فها هم قوم موسى لما كفروا نعم الله سلط الله عليهم( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ)
فما أحوجَنا أن نحفظ نعمَ الله بصيام، وذكر، وترك المعاصي وعدم الإصرار عليها ، وأن نحذر الغفلة واللهو، وارتكاب البدع والمخالفات.
اللَّهُمَّ اجعلنا من الشَّاكرين، الثابتين، المُخلِصين،
اللَّهُمَّ كما نجَّيتَ موسى ومن معه، فنجّنا من ذنوبنا، وهمومنا، ومكر أعدائنا، وبلّغنا صيام عاشوراء إيمانًا واحتسابًا يا ربَّ العالمين.
أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ﴾
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، الحمدُ للهِ الَّذي جعلَ في قصصِ الأنبياءِ عبرةً لأولي الألباب، وهدًى للقلوبِ والأرواح، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد، عباد الله:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى.
🔹 أيّها الآباء:
ربّوا أبناءكم على التوحيد والثقة بوعد الله، علّموهم من قصة موسى أن الإيمان يصنع الثبات، وأن الحق ينتصر، ولو طال البلاء.
اغرسوا فيهم أن النِّعم لا تدوم إلا بالشكر، وأن النصر لا ينزل إلا مع الصبر.
🔹 أيّها المعلّمون والدعاة:
كونوا كـموسى عليه السلام في الحكمة والتوجيه، اغتنموا المناسبات التربوية، وربّوا النشء على معاني الصبر واليقين، فـ"عاشوراء" فرصة لغرس القيم، لا مجرد صيام يوم.
🔹 أيها الشباب:
قصَّة موسى علّمتنا أن الله مع المؤمن إذا صدق، فاجعل عاشوراء انطلاقة جديدة نحو طاعة الله، وتحصين النفس من التيه والضياع، والتعلق بالله لا بأوهام الدنيا.
أيها الأحبة الكرام.. أقول لكل واحد منكم!
1. جدّد نيتك في صيام عاشوراء احتسابًا للأجر.
2. اجعل هذا الشهر بداية لعام هجري تُسابق فيه إلى الخيرات.
3. راجع سير الأنبياء واقتدِ بثباتهم.
4. لا تتعامل مع عاشوراء كما تتعامل بعض الطوائف بالبدع والمآتم، بل اتّبع هدي النبي ﷺ بالصيام والشكر لله، ولم يكن هدي النبي ﷺ تذكر أيام موتى الصالحين والبكاء عليهم كل عام بل ذلك باب شر وفتنة والعياذ بالله
5. خصّص وقتًا لأهلك وأولادك، وحدثهم عن قصة موسى وعاشوراء بلغةٍ بسيطة تربوية ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ )
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة فقد أمركم بذلك ربكم عز وجل فقال :
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
"اللهُم صل وسلم على نَبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه عدد ماذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون".
اللَّهُمَّ اجعل هذا العامَ عامًا مباركًا على الإسلامِ والمسلمين،
اللَّهُمَّ انصُر إخواننا المستضعفين في كل مكان..
اللَّهُمَّ اجعلنا من أهل اليقين، وارزقنا الاقتداء بثباتَ موسى، وقوةَ إيمانه، وحُسنَ توكّله.
اللَّهُمَّ أصلح شبابَ المسلمين، واهدِ أبناءَهم، واحفَظ نساءَهم، وبارك في آبائهم ومعلّميهم.
اللهم عافنا في ديننا ودنيانا واشفي مرضانا ومرضى المسلمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتمسّكين بسنةِ نبيّك، المقتدين بهديه، العاملين بشريعتِه،
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمّتنا وولاةَ أمورنا، ووفّق خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحب وترضى.
اللَّهُمَّ لا تردَّنا خائبين، ولا من رحمتك مطرودين
واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك..
وسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المرفقات
1751497129_عاشوراء وتربية النفوس على الثقة بالله..pdf