عام دراسي جديد

هلال الهاجري
1447/02/26 - 2025/08/20 06:23AM

الحمدُ للهِ جعلَ العلمَ طهارةً للنفوسِ، ونوراً للبصائرِ، وطريقاً إلى الحقِّ، وهادياً إلى الجنةِ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، خلقَ الإنسانَ، وعلمَّه البيانَ، ومدحَ أهلَ العلـمِ والإيمانِ، ومنَّ عليهم بالتوفيقِ والعرفانِ، ورفعَ منارَ العلمِ، وأشادَ بالعلماءِ والمتعلمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه إمامَ المربينَ، وقدوةَ العلماءَ والسالكينَ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الهداةِ المتقينَ، ومن سارَ على هديهم، وسلكَ سبيلَهم إلى يومِ الدينِ، أَمَّا بَعْدُ:

أيُّها الأحبَّةُ ..

ماذا يعني لكم أن ينزلَ أفضلُ مَلَكٍ، في أفضلِ ليلةٍ، في أفضلِ شهرٍ، في أفضلِ بُقعةٍ، على أفضلِ رسولٍ، بأفضلِ كتابٍ، لأفضلِ دينٍ، ولأفضلِ أمَّةٍ، ويبدأُ بقولِه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)؟.

بالعلمِ تُبنى الحَضاراتُ، وتزدهرُ الصِّناعاتُ، وترقى المُجتمعاتُ، بالعلمِ تُحافظُ الأممُ على عزِّها وقوَّتِها، وبالجهلِ تنسلخُ الدُّولُ من مجدِها ونهضتِها. بالعلمِ تتطوَّرُ البلادُ، وتتحقَّقُ الأمجادُ، ويرتفعُ الأفرادُ، كما قالَ تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).

العلمُ هو العِزُّ الرَّفيعُ، والشَّرفُ الوَسيعُ، تتسابقُ إليه الأمَّمُ والأجيالُ، وتُبذلُ فيه الأعمارُ والأموالُ، ويدَّعيه السُّفهاءُ والجُهَّالُ، يقولُ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ: كَفى بالعلمِ شَرفاً أن يَدَّعيهِ من لا يُحسنُه، ويَفرحُ به إذا نُسبَ إليهِ، وكَفى بالجهلِ ذَمَّاً أن يَتبرأَ منه من هو فِيه.

الْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ وَطَالبُهُ ** مِنْ أَكَمْلِ النَّاسِ مِيزَانًا وَرُجْحَانَا

وَالْعِلْمُ نُورٌ فَكُنْ بَالْعِلْمِ مُعْتَصِمًا ** إِنْ رُمْتَ فَوْزًا لَدَى الرَّحْمَنِ مَوْلانَا

وَهُوَ النَّجَاةُ وَفِيهِ الْخَيْرُ أَجْمَعُهُ ** وَالْجَاهِلُونَ أَخَفُّ النَّاسِ مِيزَانَا

وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا كَانَ مُنْخَفِضًا ** وَالْجَهْلُ يَخْفِضُهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَا

فأمَّةُ الإسلامِ هي أمَّةُ العلمِ والتَّعليمِ، في أمورِ دينِها ودُنياها، فبالعلمِ بناءُ الحضارةِ والإنسانِ، وبالعلمِ ترتفعُ الأمَّمُ والأوطانُ، فمن أرادَ مُستقبلَ بلدٍ أو شعبٍ أن يعرفَه، فليسألْ عن اهتمامِه بالعلمِ والمعرفةِ، فما ارتفعتْ أمَّةٌ إلا بالعلمِ والثَّقافةِ، وما سقطتْ حضارةٌ إلا بالجهلِ والسَّخافةِ.

قالَ ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ تَعالى: (إنَّ العلمَ يرفعُ صاحبَه في الدنيا والآخرةِ ما لا يرفعه المُلكُ ولا المالُ ولا غيرُهما، فالعلمُ يزيدُ الشَّريفَ شَرفًا، ويَرفعُ العبدَ المملوكَ حتى يُجلِسَه مجالسَ الملوكِ)، لما قَدِم هارونُ الرَّشيدُ الرَّقةَ، انجفلَ النَّاسُ خَلْفَ عبدِ اللهِ بنِ المباركِ وتَقطَّعتْ النِّعالُ وارتفعتْ الغَبَرَةُ، فأشرفتْ أمُّ ولدٍ لِأميرِ المؤمنينَ من بُرجٍ من قَصرِ الخَشبِ، فلما رأتْ النَّاسَ، قالتْ: ما هذا؟، قالوا : عالمٌ من أهلِ خُراسانَ قَدمَ الرَّقةَ يُقالُ لـه عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، فقالتْ: هذا واللهِ الملكُ، لا مُلكُ هارونَ الذي لا يَجمعُ النَّاسَ إلا بِشُرَطٍ وأَعوانٍ.

العِلمُ يَبني بَيتاً لا عِمادَ لَهُ *** والجَهلُ يَهدِمُ بَيتَ العِزِّ والكَرمِ

ولم يكن يُعيقُ الطُّلابَ شيءٌ في سبيلِ تحصيلِ ونشرِ العلمِ، بل كانوا يُذلِّلونَ في سبيلِه العَسيرَ والصَّعبَ، ويتعرَّضونَ لتحصيلِه للمشقةِ والتَّعبِ، يَقولُ ابنُ أَبي حَاتمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: كنَّا بمصرَ سبعةَ أشهرٍ لطلبِ العلمِ، كُلُّ نهارِنا مُقسَّمٌ لمجالسِ الشيوخِ، وبالليلِ النسخُ والمقابلةُ، يَقولُ: فأتينا يومًا أنا ورفيقٌ لي شَيخًا، فقالوا: الشَّيخُ مَريضٌ، فرجعنا ورأينا في طَريقِنا سمكةً أعجبتنا فاشتريناها، فلما رَجعنا إلى البيتِ، حَضرَ وَقتُ مَجلِس عِلمٍ آخرَ، فلم نتمكنْ من طَهي هذه السمكةِ، ومَضينا إلى مجلسٍ آخرَ، فلم نَزل حتى أَتى على هذه السمكةِ ثَلاثةُ أيامٍ وكَادتْ أن تتعفنَ، فأكلناها نَيِّئةً، ثُّمَ قَالَ: (لا يُستطاعُ العلمُ براحةِ الجسدِ).

وكانَ أحدُهم إذا استغرقَ في العلمِ نسيَ ما حولَه من الأشغالِ، وأصبحَ بالعلمِ وحدَه منشغلُ البالِ، فهذا العَلامةُ النَّحويُّ مُحمدٌ بنُ أحمدٍ أَبو بَكرٍ الخَياطُ البَغداديُّ يَدرسُ العلمِ في جَميعِ أوقاتِه حتى في الَّطريقِ، مَعه كِتابٌ يَقرأُ وهو يَمشي، وكَانَ ربما سَقطَ في حُفرةٍ أو خَبطتَه دَابةٌ، فعجباً لنَهمِ العلمِ.

باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حَمداً طَيباً كثيراً مُباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ، وبعدُ:

فها نحنُ نعودُ بعدَ إجازةٍ طويلةٍ، لنقفَ على أبوابِ العلمِ والثَّقافةِ، فَمَرحباً بِالدِّراسةِ والتَّعليمِ، وتذكَّرْ أيُّها الطالبُ النِّيةَ الصَّالحةَ في كلِّ يومٍ وأنتَ تسلكُ طريقَ طلبِ العلمِ المُفيدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)، واجعلْ هدفَك هو رفعُ الجهلِ عن نفسِك، ونفعُ الإسلامِ والمسلمينَ شرعيَّاً أو طبياً أو اقتصادياً أو صناعياً أو عسكرياً أو تقنياً، أو في أي مجالٍ نَافِعٍ للأمَّةِ الإسلاميةِ، وعليكَ بالصَّبرِ في تحصيلِ العلمِ، فالعلمُ يحتاجُ إلى صبرٍ وطولِ زمانٍ، فاحفظْ وكرِّرْ، وافهم وذاكرْ، وبالقليلِ مع القليلِ، يجتمعُ العلمُ الكثيرُ:

اليومَ شيءٌ وغدًا مثلُه *** مِن نُخَبِ العِلْمِ التي تُلتَقَطْ

يُحصِّلُ المَرءُ بها حِكْمةً *** وإنَّما السَّيلُ اجتِماعُ النُّقَطْ

وأنتَ أيُّها المعلمُ هنئياً لكَ استغفارُ الكونِ لكَ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)، فأنتَ تقومُ بوظيفةِ الأنبياءِ، ومهنةِ العُلماءِ، فمن ذا ينسى فضلكَ على الأبناءِ، ومن ذا لا يعرفُ جُهدَك والعطاءَ، فأنتَ الشَّمعةُ التي تُنيرُ الدُّروبَ، وكلماتُكَ يُحيي اللهُ بها القلوبَ، كم من جاهلٍ علَّمتَه، وكم من غافلٍ نبَّهتَه، فاللهَ اللهَ في أبنائنا، فَهُم عِندَكَ أَمَانةٌ، ونحنُ أولياءُ الأمورِ عَوناً لَكَ إن شَاءَ اللهُ عَلى أَداءِ الأمَانةِ، وَصَدَقَ أَحمدُ شَوقِي عِندَمَا قَالَ:

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجِيلا *** كَادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي *** يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا

اللهمَّ وَفِّقْ الطلابَ والطالباتِ في عامِهم الدراسيِّ الجديدِ، ونَوِّرْ طريقَهم، واجعلهم من النَّاجحينَ الفَالحينَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللهمَّ سدِّدِ المُعلمينَ والمُعلماتِ، اللهم اجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وارزقْ أهلَه من الثمراتِ وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهمَّ من أرادَ بنا شراً فأشغله في نفسِه ورُدَّ كيدَه في نحرِه، اللهمَّ احفظ لنا أمنَنا وإيمانَنا واستقرارَنا وصلاحَ ذاتِ بيننا يا ربَّ العالمينَ.

المرفقات

1755660218_عام دراسي جديد.docx

1755660226_عام دراسي جديد.pdf

المشاهدات 771 | التعليقات 0