عن عاشوراء: ضحيةُ الأمسِ جلّادُ اليوم

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/01/08 - 2025/07/03 14:23PM

ضحيَّةُ الأمسِ جلّادُ اليومِ

 


الحمدُ للهِ المُنتقِمِ، الحمدُ للهِ القويِّ العزيزِ، الحمدُ للهِ الحَكَمِ العَدْلِ، الذي حرَّمَ الظُّلمَ على نفسِه، وجعلَهُ بينَ عبادِهِ مُحرَّمًا؛ فقصمَ ظُهورَ الجبابرةِ، وانتقمَ من الظالمينَ، ونجَّى عبادَهُ المؤمنينَ.

والصلاةُ والسلامُ على مَن نَشَرَ العدلَ بينَ العالمينَ، وأسقطَ بسيفِ الحقِّ الظالمينَ المُتكبِّرينَ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 


أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ، كما أمركم اللهُ بذلكَ في قولِه تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١].

 


أمّا بعدُ:

فغدًا هو اليومُ العاشرُ من المُحرَّم، وفيه وقعَ حدثٌ عظيمٌ، ذو عِبَرٍ كثيرةٍ، وهو نجاةُ اللهِ لموسى عليهِ السلامُ ومَن معهُ من المؤمنينَ.

حينَ تبِعَهم فرعونُ وجنودُه، ففلقَ اللهُ البحرَ لموسى ومَن معهُ، ثمَّ أطبقَهُ على فرعونَ ومَن معهُ.

فهيَّا بنا ننهَلْ من معينِ هذا الحدثِ الضخمِ، ونستنيرْ بنورهِ.

 


إنَّ هذا الحدثَ يُذكِّرُنا في كلِّ عامٍ، بِبشاعةِ الظلمِ والطغيانِ، وفداحةِ عواقبهِ،

وأنَّ اللهَ جلَّ في علاه، الذي وصفَ نفسَهُ بأنَّه ذو انتقامٍ، مُوقِعٌ بأسَهُ وعذابَهُ بالظالمينَ الذين يبغونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، ويسعونَ في الأرضِ فسادًا.

وأنَّهُ سبحانهُ وتعالى، مُنجِي المؤمنينَ الصابرينَ، ومُنتصِرٌ لهم، مِمَّن بَغَى وطَغَى عليهم.

 


وهذهِ سنَّةُ اللهِ الماضيةُ في فرعونَ، ومَن قبلهُ، ومَن بعدَهُ.

فَقَصَصُ القرآنِ كلُّها، تُؤكِّدُ هذه السنَّةَ، وتضربُ لها الأمثالَ، فما مِن نبيٍّ، إلا وانتصرَ اللهُ لهُ ومَن معهُ من المؤمنينَ، وأنزلَ عقابَهُ الشديدَ على الظالمينَ المُتجبِّرينَ.

 


قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ القُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليمٌ شَديدٌ﴾ [هود: ١٠٢].

وقال تعالى: ﴿حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُم قَد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأسُنا عَنِ القَومِ المُجرِمينَ﴾ [يوسف: ١١٠].

 


ففي هذا اليومِ، ذِكرى ومُزدَجَرٌ للظالمِ، أن ينزعَ عن ظُلمِه، ويتذكَّرَ بأنَّ أيّامَ قوَّتِه وبَطشِه لن تدومَ،

وأنَّهُ مهما غرَّتْهُ هذه القوَّةُ، وأشعرتْهُ بعدمِ قدرةِ أحدٍ عليهِ، جاءتهُ نَقمةُ اللهِ من حيثُ لا يحتسبُ.

 


قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ: ﴿وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ﴾. رواه البخاري ومسلم.

 


وفيه تَذكيرٌ أيضًا للمظلومينَ المُضطهَدينَ، بأنَّهُ مهما طالَ ليلُ الظلمِ، ومهما عظُمتِ المآسي والآلامُ، ومهما شعروا بالخِذلانِ والهوانِ، فإنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ، وأنَّهُ سبحانهُ وتعالى لا يتخلَّى عن عبادِهِ، وأنَّهُ سيشفي صدورَهم بما سينزلُهُ من عقابٍ بمَن طغى وبغى عليهم.

 


ويَعْظمُ الظلمُ - معشرَ الإخوةِ - كلَّما كانَ عامًا، ومنتهِكًا للضروريّاتِ الدينيَّةِ والدنيويَّةِ التي حرَّمها اللهُ.

فيتجرَّأُ الظالمُ حينئذٍ على أديانِ الناسِ بالطَّمسِ والتشويهِ والتضليلِ، وعلى أموالِهم وأنفُسِهم وأعراضِهم، بالأخذِ والقتلِ والتنكيلِ.

 


وهذا ما فعلهُ فرعونُ، فقد ضلَّلَ الناسَ في دينِهم، فكذَّبَ الحقَّ الذي جاءهُ، واتَّهمَ موسى عليهِ السلامُ ونواياهُ، وأنَّهُ إنَّما أرادَ بدعوتِه وهارونَ، أن تكونَ لهما الكبرياءُ في الأرضِ.

وبلغَ بهِ حدُّ التضليلِ في الدِّينِ إلى أن ادَّعى الألوهيَّةَ، فهو القائلُ كما حكى اللهُ عنه:

﴿وَقالَ فِرعَونُ يا أَيُّهَا المَلَأُ ما عَلِمتُ لَكُم مِن إِلهٍ غَيري فَأَوقِد لي يا هامانُ عَلَى الطّينِ فَاجعَل لي صَرحًا لَعَلّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ موسى وَإِنّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكاذِبينَ﴾ [القصص: ٣٨].

 


وهو الذي استطالَ على بني إسرائيلَ، بالقتلِ والتعذيبِ والتسخيرِ، دونَ رحمةٍ ولا هوادةٍ، ودونَ تفريقٍ بينَ الصغيرِ والكبيرِ، والذَّكرِ والأنثى: ﴿إِنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَها شِيَعًا يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبناءَهُم وَيَستَحيي نِساءَهُم إِنَّهُ كانَ مِنَ المُفسِدينَ﴾ [القصص: ٤].

 


فكانَ بنو إسرائيلَ ضحيَّةَ هذهِ الأساليبِ الفرعونيَّةِ، فدبَّ بينهم الخلافُ والفُرقةُ بسببِ مكايدِ فرعونَ وتحريشِه، ودبَّ بينهم الخوفُ والهَلَعُ بسببِ بطشِه وقتلِه.

حتَّى بعثَ اللهُ لهم موسى عليهِ السلامُ، فجمَعَهم بعد فرقةٍ، وأمرَهم بالتوحيدِ بعد وثنيَّةِ قدماءِ المصريينَ وشركِهم، وتعلَّموا على يديهِ معاني الصَّبرِ والعِزَّةِ والكرامةِ والتوكُّلِ، حتَّى نصرَهم اللهُ على عدوِّهم.

 


وتمضي عجلةُ التاريخِ، فإذا بضحيَّةِ الأمسِ جلّادُ اليومِ!

فها هم بنو إسرائيلَ اليومَ، يسلُكونَ سُبُلَ فرعونَ وأساليبَهُ مع المسلمينَ في فلسطينَ وغيرها، غيرَ مُعتَبِرينَ بما حاقَ بهم، ولا مُدرِكينَ لسننِ اللهِ التي لا تُحابِي أحدًا.

وظنُّوا، كما هو ظنُّهم من قبلُ، بأنَّهم في مَنأى عن عقابِ اللهِ لأنَّهم أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، ولم يعلموا أنَّهُ لا سببَ مع اللهِ إلَّا التمسُّكَ بنهجِهِ وطريقِهِ، فمَن حادَ عنهُ استحقَّ الذمَّ والعقوبةَ.

 


فلم يتركوا من سنَّةِ فرعونَ شيئًا إلَّا فعلوهُ، وأشدَّ منها وأنكَى؛ فقتَلوا الشيوخَ والأطفالَ والنِّساءَ، وحاصروا المُدنَ، وقطعوا عنها كلَّ أسبابِ الحياةِ، واستَخدموا كلَّ أنواعِ الأسلحةِ الفتَّاكةِ والمُحرَّمةِ، دون أن يَرفَّ لهم جفنٌ، أو يتحرَّكَ فيهم ضميرٌ، ولا غرابةَ؛ فقلوبُهم كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً كما أخبرَ عنهم خالقُهم.

 


وكلُّ ذلكَ يتمُّ وتُرافِقهُ آلَتُهم الإعلاميَّةُ الخبيثةُ، التي تُقلِبُ الحقائقَ، وتزرعُ الخلافَ والضغينةَ بين المسلمينَ، وتُشوِّهُ صورتَهم في العالمِ أجمعَ، وتُشكِّكُهم في دينِهم وقضيَّتِهم وعدالتِها.

 


لكن ربَّك بالمرصادِ، فما أنزلَهُ على فرعونَ الأمسِ، من النَّكالِ والعذابِ، ليس هو من فرعونَ اليومِ ببعيدٍ،

وما أنزلَهُ من فرجٍ ونصرٍ، على ضحايا الأمسِ، ليس هو الآخرُ ببعيدٍ عن ضحايا اليومِ.

وسيتحقَّق وعدُ اللهِ اليومَ، كما تحقَّقَ بالأمسِ: ﴿وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ﴾ [القصص: ٥].

أقولُ قولي هذا …

 


الثانية:

 


أمَّا بعدُ:

أيُّها الإخوةُ، ربَّما إذا تحدَّثنا عن الظلمِ، ذهبَ وَهَلُنَا إلى أنَّنا نعني فقط، الظلمَ في صورتِهِ الأبشعِ والأعمِّ، التي تقعُ من الدولِ المُتجبِّرةِ والمُتكبِّرةِ، وهذا يجعلُنا بعيدينَ عن الاعتبارِ بيومِ عاشوراءَ في خاصَّةِ نفوسِنا.

وحتى تتمَّ العِبرةُ، بهذا الحدثِ العظيمِ، ويَنتفعَ بهِ كلُّ أحدٍ في نفسِه؛ فلنتَّقِ الظلمَ صغُر أم كَبُر، مع القريبِ والبعيدِ، فداخلَ كلٍّ منَّا فرعونٌ يتوقُ إلى التجبُّرِ والظلمِ، ما لم نُهذِّبْ هذهِ النُّفوسَ ونقمعْها.

وهذهِ حقيقةٌ نفسيَّةٌ، عبَّر عنها المتنبِّي بقولهِ:

والظُّلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تجدْ

                                  ذا عفَّةٍ فلعِلَّةٍ لا يظلِمُ

 


وأعظمُ العِلَلِ: خوفُ اللهِ ومراقبتُهُ، فَسَلْ نفسَك اليومَ قبلَ أن تُسأَلَ غدًا:

كم من مالٍ بغيرِ وجهِ حقٍّ أخذتَه؟!

وكم عِرْضٍ شتمتَه؟!

وكم بريئٍ اتهمتَه؟!

وكم ضعيفٍ ضربتَه؟!

فإن كانَ شيءٌ من هذا حصلَ منك، فتحلَّلْهُ اليومَ قبلَ أن يكونَ الحسابُ بالحسناتِ والسيئاتِ.

 


قال صلى الله عليه وسلم:

«أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟» قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهمَ له ولا متاعَ،

فقالَ: «إنَّ المُفلِسَ من أمَّتي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا،

فيُعطى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهُم فطُرِحَت عليه، ثمَّ طُرِحَ في النارِ». رواه مسلم.

 


وتذكَّروا - عبادَ اللهِ - أنَّ صيامَ عاشوراءَ سنَّةٌ مؤكَّدةٌ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد صامَهُ وأمرَ بصيامِه، وقالَ في فضلِهِ وأجرِهِ:

«صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه، والسنةَ التي بعدَه،

وصيامُ يومِ عاشوراءَ أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه». رواه مسلم.

 


فلنحرصْ على صيامِه، شكرًا للهِ وتقربًا إليهِ، ولنصمْ يومًا قبلَه أو بعدَه، مخالفةً لليهودِ.

 


اللهم …

المرفقات

1751541781_‎⁨المستند (22)⁩.docx

المشاهدات 479 | التعليقات 0