عن عاشوراء: وحدةُ الدين أم وحدةُ الأديان

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/01/08 - 2025/07/03 17:21PM

                        وحدةُ الدِّينِ أَم وَحدةُ الأَديانِ؟!

 

الحمدُ للهِ الذي جعَلَ الإسلامَ الدِّينَ الحَقَّ، وبعثَ بهِ رُسُلَهُ المؤيَّدينَ بالصِّدقِ، فلم يَقبَلْ مِنَ النّاسِ غيرَهُ، وتوعَّدَ المُخالِفينَ لهُ بالمَحْقِ.

والصلاةُ والسلامُ على خاتمِهِم، الذي جاءَ مُصدِّقًا لِمَن سبَقَهُ مِن إخوانِهِ المُرسَلينَ، ومُبشِّرًا لِمَن بعدَهُ مِنَ العالَمينَ.

أمّا بعدُ: فأوصيكم ونفسيَ المقصِّرةَ بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فهي النّجاةُ لِمَن أرادَ النّجاةَ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: ٧١-٧٢].

 

أيها المسلمون:

غداً ستمر بنا ذِكرى عاشوراء، اليومِ الذي أنجى اللهُ فيهِ موسىٰ عليهِ السَّلامُ ومَن معهُ من المؤمنين، من بطشِ فرعونَ ومَلَئِه.

وهي حادثةٌ مليئةٌ بالدروسِ والعِبَرِ، ولا غرابةَ في ذلكَ؛ فهي من قصصِ القرآنِ، الذي قالَ اللهُ عنها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ١١١].

 

فدعونا اليومَ، ننهلْ من معينِ هذا النبعِ ونستقِ، حتّىٰ نصدُرَ عنهُ وقد أخذنا حاجتَنا من العِبرةِ والمفاهيمِ الصحيحةِ.

 

عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، قال:

“قَدِمَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ، فَوَجَدَ اليهودَ يصومونَ يومَ عاشوراءَ، فَسُئِلوا عن ذلكَ؟ فقالوا: هذا اليومُ الذي أظهرَ اللهُ فيه موسىٰ وبني إسرائيلَ على فرعونَ، فنحنُ نصومُه تعظيمًا له، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: نحنُ أولىٰ بموسىٰ منكم، فأمرَ بصومِه” رواه البخاري.

 

هذا الموقفُ العظيمُ من رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، يتجلّى فيهِ إيمانُ هذه الأُمّةِ بجميعِ أنبياءِ اللهِ ورُسُلِهِ، عليهمُ الصّلاةُ والسّلامُ.

وهو معْلَمٌ عظيمٌ من معالمِ دينِهم، ورُكنٌ ركينٌ في إيمانِهم، يحقُّ لهم الفرحُ بهِ والفخرُ؛ فلا توجدُ اليومَ أُمّةٌ تُؤمنُ بجميعِ أنبياءِ اللهِ إلّا هي، وبقيّةُ الأُممِ فرَّقَتْ بينَ أنبياءِ اللهِ؛ فآمنَتْ ببعضِهم وكفَرَتْ ببعضٍ، يقولُ اللهُ مثنيًا عليهم:

﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥].

 

إنّ هذه الأُمّةَ، بصيامِها هذا اليومَ، كبيرِها وصغيرِها، وفرحِها بنجاةِ موسىٰ عليهِ السّلامُ، تُترجِمُ عمليًّا هذا الأصلَ العظيمَ والرُّكنَ الرّكينَ.

 

دعونا، بهذه المناسبةِ، نتوقّفْ عند هذا الأصلِ العظيمِ من أصولِ الدّينِ عند المسلمين، وهو الإيمانُ بجميعِ الرُّسلِ والكُتبِ، لننهلَ منهُ الدروسَ كما أسلفْتُ، وذلكَ بمحاولةِ الكشفِ عن منطقيّتهِ وعقلانيّتهِ وحكمتهِ.

 

فهو يكشِفُ ويُعبِّرُ عن نظرةِ المسلمينَ للرُّسُلِ السّابقينَ وأديانِهم؛ فهم يعتقدونَ أنَّ دينَهم واحدٌ، جاءَ من ربٍّ واحدٍ، وكلُّهم – عليهمُ السّلام – دعوتُهم واحدةٌ لا تناقُضَ فيها، وهي عبادةُ اللهِ وحدهُ لا شريكَ له، والدعوةُ لمكارمِ الأخلاقِ، ونبذُ الفحشاءِ والمنكرِ وكلِّ فسادٍ وإفسادٍ.

 

فهمْ بهذا يرونَ أنَّ الدِّينَ الذي جاءَ من عندِ اللهِ واحدٌ، وكلُّ ما خالفَهُ فهو من انحرافاتِ البشرِ وتحريفِهم، التي تُنتقَدُ وتُقوَّمُ لا تُقَرُّ وتُتابَع، قالَ تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩].

 

وهي نظرةٌ تختلفُ تمامًا عن نظرةِ الغربِ للأنبياءِ السّابقينَ وأديانِهم، والتي تقومُ على اعتقادِ صحّةِ جميعِ الأديانِ الموجودةِ اليوم، رغمَ أنَّها متناقضةٌ في ذاتِها، ومتناقضةٌ ومختلفةٌ فيما بينها.

 

وهي الصّيغةُ التي يُروِّجُ لها الغربُ اليومَ، تحتَ مسمّى “وحدةِ الأديانِ” أو “الإبراهيميّةِ” أو ما شابه.

 

وإذا ما أردنا أن نقارنَ بين النّظرتين: أيُّهما منطقيّةٌ وعقلانيّةٌ؟ وحدةُ الدِّينِ كما هي عند المسلمين، أم وحدةُ الأديانِ كما هي عند الغرب؟

 

فسنجدُ أن وحدةَ الدِّينِ عند المسلمين تقومُ على أساسٍ منطقيٍّ، وهو رفضُ اعتقادِ صحّةِ أشياءَ متناقضةٍ، وكذلكَ رفضُ نسبةِ شيءٍ متناقضٍ إلى اللهِ؛ وذلكَ لأنّ المسلمينَ يشترطونَ للدِّينِ الصحّة، بمعنى: لا يُجيزونَ اعتقادَ واعتناقَ دِينٍ غيرِ صحيحٍ، يُخالفُ العقلَ والمنطقَ، وهو الأساسُ الذي يقومُ عليهِ عندهم نقدُ الأديانِ المخالفةِ وتمحيصُها.

 

وهذا ما لا تحظى بهِ فكرةُ “وحدةِ الأديانِ” عند الغربِ؛ فهي تقومُ على أساسٍ غيرِ منطقيٍّ، قِوامُهُ قبولُ اعتقادِ صحّةِ أشياءَ متناقضةٍ؛ وذلكَ لأنَّ الدِّينَ عند الغربِ هامشيٌّ وثانويٌّ، ولا يشترطونَ لاعتقادهِ واعتناقهِ صحّةً، فلا ضَيرَ أن يتمسَّكَ الواحدُ منهم بدِينٍ، رغمَ علمِهِ بعدمِ صحّتِهِ ومناقضتهِ للعقلِ والمنطقِ.

 

ويزدادُ هذا الأمرُ وضوحًا، في كشفِ تناقضِهِ، أنّ المنطقَ الصّحيحَ – عندنا وعندهم، وعند كلِّ ذي عقلٍ سليم – يرفُضُ نِسبةَ أفكارٍ متناقضةٍ لعالمٍ أو مفكِّرٍ أو عبقريٍّ أو أيِّ كبيرٍ وعظيمٍ، وإذا حصلَ ذلكَ، لَزِمَ الترجيحُ والتّصحيحُ، فكيفَ بعدَ ذلكَ يُجيزونَ صُدورَ أديانٍ متناقضةٍ من عندِ اللهِ، ويُنسبونَها كلَّها إليه؟!

 

بعد كلِّ ذلكَ، يحقُّ للمسلمينَ في يومِ عاشوراء، أن لا ينعَموا بصيامِهم فقط، ولكنْ أيضًا بمنطقيّتهم وعقلانيّتهم، إزاءَ أفكارٍ متناقضةٍ وهشّةٍ.

 

ولو أنّ المسلمينَ في هذا الزّمن، اعتزّوا بدينِهم، وغاصوا في الكشفِ عن منطقيّتهِ وعقلانيّتهِ وحِكَمِه، بدلَ التّعاملِ معهُ بتقليدٍ وجُمودٍ، لاستطاعوا الخلوصَ بفكرٍ مختلفٍ إزاءَ الأفكارِ المطروحةِ اليوم.

 

وتخلَّصوا من حالةِ التبعيّةِ للغرب، والتّعامُلِ مع أفكارِهِ ومفاهيمِهِ؛ حولَ اللهِ والدِّينِ والحياةِ والكونِ والمرأةِ والسّياسةِ والاقتصادِ والاجتماعِ، على أنّها مطلقةٌ ونهائيّةٌ، والوقوفُ أمامَها بعقولٍ مُعطَّلةٍ ومندهشةٍ.

 

وهو الاعتزازُ بالذّاتِ الراشِد، الذي أرادَهُ نبيُّها عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ لها في مواطنَ ونصوصٍ كثيرةٍ، ومنها في مثلِ هذا اليومِ، عندما أمرَهم بمخالفةِ اليهودِ بصيامِ يومٍ قبلَهُ أو يومٍ بعدَهُ، لتبقىٰ أُمّةً مُمَيَّزةً ومتمايِزةً، ولا شكَّ أنَّهُ معلمٌ حضاريٌّ عظيمٌ عند كلِّ أُمّةٍ تحترمُ نفسَها وتعتزُّ بها.

 

أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيمِ:

﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٤-٨٥].

 

أقولُ قولي هذا…

 

 

 

 

الثانية:

 

وبعدُ، أيّها المسلمون،

نحن في شهرِ اللهِ المحرَّم، وهو من الأشهرِ الحُرُم، عن أبي بكرةَ رضيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال:

«الزَّمانُ قدِ استدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عشَرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ: ثلاثٌ متوالياتٌ، ذو القعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ، الذي بينَ جُمادى وشَعبانَ» رواه البخاري.

 

وقد ثبتَ عنِ النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، أنَّ أفضلَ الصّيامِ بعد رمضانَ، صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّم،

فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال:

قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم:

«أفضلُ الصّيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المُحرَّمُ، وأفضلُ الصّلاةِ بعدَ الفريضةِ صلاةُ اللّيلِ» رواه مسلم (1163).

 

ويتأكّدُ الفضلُ بصيامِ يومِ عاشوراء،

فقد ثبتَ عنِ النبيِّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أنّه قال:

«صيامُ يومِ عاشوراءَ، أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبله» أخرجه مسلم.

 

فللمسلمِ أن يُفردَ هذا اليومَ بالصّومِ، والأكمَلُ أن يصومَ يومًا قبلَهُ أو يومًا بعدَهُ، مخالفةً لليهودِ.

 

هذا، وصلّوا وسلّموا على من أُمرتم بالصلاةِ والسلامِ عليه

المرفقات

1751552455_‎⁨المستند (23)⁩.docx

المشاهدات 400 | التعليقات 0