غياب الشورى.. وأثره في تفكك البيوت وضعف المجتمعات

د مراد باخريصة
1447/02/20 - 2025/08/14 18:50PM

 

أيها الإخوة المسلمون: حديثنا اليوم عن خُلُق عظيم من أخلاق النبوة، ومبدأ راسخ من مبادئ القيادة والصلاح والإصلاح، ألا وهو مبدأ الشورى.

هذا المبدأ لم يكن عند رسول الله ﷺ مجرد كلمة أو شعار، بل كان منهج حياة، وسلوك قيادة، وأسلوب تربية، يطبقه في السلم والحرب، في شأن نفسه وفي شأن الأمة، وفي الأمور الصغيرة والكبيرة.

قال الله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وقال في خطاب نبيه ﷺ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.

نبينا ﷺ وهو المؤيَّد بالوحي، كان يستشير أصحابه، ليعلّم الأمة أن القائد مهما بلغ من الحكمة والعلم، فإنه يحتاج إلى آراء الآخرين، ولأن في الشورى جمعًا للقلوب، وتوحيدًا للكلمة، ومنعًا للانفراد الذي قد يؤدي إلى الخطأ والظلم.

ومن أمثلة ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم: أنه استشار الصحابة يوم بدر في مكان النزول، فأخذ برأي الخبير العسكري الحُباب بن المنذر رضي الله عنه، وغيّر الموقع.

ويوم أحد، استشارهم عليه الصلاة والسلام في الخروج لملاقاة العدو أو البقاء في المدينة، ونزل عند رأي جمهور الشباب بالخروج.

وفي غزوة الخندق، قبل برأي سلمان الفارسي بحفر الخندق، وهو أمر لم تعرفه العرب من قبل.

فالشورى في الإسلام ليست أمرًا شكليًا، بل هي تبادل آراء مبني على الصدق والنصيحة، وعلى تحمل المسؤولية، وهي لا تعني أن الكلمة الأخيرة لكل أحد، ولكنها تعني أن القائد يسمع، ويفكّر، ثم يعزم متوكلاً على الله.

عباد الله: إذا نظرنا في واقعنا المعاصر، وجدنا أننا في أمسّ الحاجة إلى إعادة إحياء مبدأ الشورى في حياتنا كلها ومن ذلك:

أن يستشير الأب أبناءه في البيت في بعض الأمور، وأن تُشاوَر الزوجة في شؤون الأسرة، فهذا يزرع الثقة ويقوي روابط المودة والمحبة بين الزوجين.

وفي العمل: أن يستشير المدير موظفيه، وألا ينفرد بالقرارات التي تمس مستقبلهم وعملهم.

وفي المجتمع: أن يكون للمواطنين رأي مسموع في القضايا الكبرى، فالشورى تقي من الفساد، وتحمي من الظلم، وتفتح أبواب الإبداع.

اليوم نرى في بيوتنا ومؤسساتنا ودولنا كثيرًا من المشكلات التي أصلها غياب الشورى:

فهذا زوج يفرض كل شيء دون نقاش، فتتولد الفجوة بينه وبين أسرته وأولاده.

وهذا مدير يتخذ القرارات منفردًا، فيشعر الموظفون أن وجودهم شكلي.

وهناك قادة ومجالس تتجاهل آراء أهل الخبرة، فتقع الأخطاء ثم ندفع جميعًا الثمن.

لقد غابت الشورى عن كثير من جوانب حياتنا، فحلّ محلها الاستبداد بالرأي، أو الإقصاء، أو اتخاذ القرار من قلة قليلة دون الرجوع إلى أهل الخبرة. وكم أوقعنا ذلك في مشاكل كان يمكن تفاديها لو تمّ الأخذ برأي جماعي عن طريق الشورى!

وفي المقابل، نرى نماذج مشرقة حين تُطبّق الشورى بصدق: في بعض المجالس المحلية، أو فرق العمل الناجحة، أو حتى الأسر المتماسكة، حيث يشعر كل فرد أن له دورًا في القرار.

عباد الله: الشورى ليست ضعفًا، ولا تردّدًا، بل هي قوة، ودليل على الثقة بالنفس، ووعي بأهمية العقل الجماعي. ومن أراد أن يتأسى برسول الله ﷺ، فليجعل الشورى منهج حياته، في صغير الأمور وكبيرها فقد أمره ربه بذلك فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

عباد الله: إن منهج النبي ﷺ في الاستشارة لم يكن مجرد إجراء إداري أو خطوة بروتوكولية، بل كان عبادة يتقرب بها إلى الله، لأنه تنفيذ لأمره سبحانه: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾.

والشورى في حياته ﷺ كانت تقوم على اختيار أهل الرأي والخبرة الذي يستشيرهم الشخص، فلم يكن يستشير أي شخص في أي أمر، بل كان يختار لكل قضية من هو أعلم بها.

ففي الحرب استشار أهل الخبرة العسكرية، وفي شؤون الزراعة استشار أهل النخيل، وفي قضايا النساء استمع لرأي أم سلمة رضي الله عنها. وهذا يعلّمنا أن الاستشارة الحقيقية لا تكون إلا من أصحاب الكفاءة، لا من كل من هبّ ودبّ!.

وكذلك الاستماع الكامل دون مقاطعة، فقد كان ﷺ يعطي المستشار الفرصة ليُتم رأيه، دون استعجال أو إظهار رفض قبل أن ينتهي من الإدلاء برأيه، مما يجعل المستشار يعبّر بحرية، ويطرح أفضل ما عنده.

وكذلك المصارحة بالمعلومات، فلم يكن النبي ﷺ يخفي الحقائق المهمة عن من يستشيرهم، بل يضع أمامهم صورة واضحة للموقف، حتى يكون الرأي مبنيًا على علم، لا على جهل أو ظنون.

هذا المنهج النبوي في الشورى غائب عند كثير من الناس اليوم، فقد تجد من يطلب المشورة بعد أن يكون قد اتخذ قراره، أو يستشير من ليس له خبرة، أو يخفي المعلومات عن المستشارين! وهذا ليس من الشورى التي أمر الله بها، بل من الشكليات التي لا فائدة منها.

فالشورى في الإسلام ليست مجرد آلية لاتخاذ القرار، بل هي قيمة أخلاقية تُشعر كل فرد أنه جزء من الكيان، وأن صوته مسموع، وأنه ليس مهمشًا أو مقصيًا. ولهذا قال الله عن المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، فجعلها وصفًا دائمًا لا موسميًا.

إن النبي ﷺ لم يكتفِ بممارسة الشورى، بل ربّى أصحابه على حبها، وعلى احترام رأي الآخرين، حتى وإن خالف رأيه الشخصي.

ففي غزوة بدر كان رأيه النزول في مكان معين، فلما جاءه الحباب بن المنذر برأي أفضل، قبله دون تردد، وأظهر شكرًا لصاحبه أمام الجميع.

وهذا يعطينا درسًا مهمًا أن القائد الحق ليس من يتمسك برأيه لمجرد أنه رأيه، بل من يفرح إذا وجد الحق عند غيره.

اللهم اجعلنا من أهل الشورى والعدل، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وولِّ عليهم خيارهم، واجعلنا متحابين متناصحين، متعاونين على البر والتقوى.

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة.

المرفقات

1755186625_غياب الشورى.. وأثره في تفكك البيوت وضعف المجتمعات.doc

المشاهدات 226 | التعليقات 0