"فإذا فرغت فانصب"
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَخْرَجَ الْمَرْعَى، وَجَعَلَ سَعْيَ عِبَادِهِ شَتَّى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَاقْتَفَى.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِالتَّقْوَى، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.
أَيُّهَا النَّاسُ: قَاعِدَةٌ قُرْآنِيَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ تَرْبِيَةِ النَّفْسِ، وَتَوْجِيهِ عَلَاقَتِهَا مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تِلْكُمُ الْقَاعِدَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ جُزْءٌ مِنْ سُورَةِ الشَّرْحِ، وَالَّتِي يَأْمُرُ اللهُ فِيهَا نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا فَرَغَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا، أَوْ انتَهَى مِنْ طَاعَةٍ، أَنْ يَنْصَبَ وَيَبْدَأَ فِي عَمَلٍ أَوْ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَرْغَبَ إِلَى رَبِّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ كُلَّهَا لِلَّهِ، فَلَيْسَ فِيهَا مَجَالٌ لِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ، بَلْ يَعِيشَ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَهُوَ يَعِيشُهَا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَفِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِيَتَمَثَّلَ حَقًّا قَوْلَ اللهِ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فالْمُسْلِمُ يرغبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى: كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالرَّغْبَةُ فِي اللهِ وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ، رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ، وَقِوَامُ حَيَاتِهِ الطَّيِّبَةِ، وَأَصْلُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ وَنَعِيمِهِ، وَلِذَلِكَ خُلِقَ، وَبِهِ أُمِرَ، وَبِذَلِكَ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ رَغْبَتُهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، وَمَنْ كَانَتْ رَغْبَتُهُ فِي اللهِ كَفَاهُ اللهُ كُلَّ مُهِمٍّ، وَتَوَلَّاهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَصَانَهُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ، وَمَنْ آثَرَ اللهَ عَلَى غَيْرِهِ آثَرَهُ اللهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَعِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ بِطَاعَةِ اللهِ وَالسَّعْيِ فِي رِضَاهُ كما أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} لَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَكْرَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ أَنْ يَكُونُوا فَارِغِينَ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ!.
يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي لَأَمْقُتُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ.
وَلَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّاسِ الْفَارِغِينَ تَنْبَغِي مُجَانَبَتُهُمْ؛ لِئَلَّا يُؤَثِّرُوا عَلَيْهِ بِطَبْعِهِمُ الرَّدِيءِ، كَمَا قَالَ اللهُ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ صَالِحٌ لِلْحَيَاةِ، يُعَامِلُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ بَشَرٌ، لَهُمْ أَشْوَاقُهُمُ الْقَلْبِيَّةُ وَحُظُوظُهُمُ النَّفْسِيَّةُ، فَهُوَ لَمْ يَفْتَرِضْ فِيهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامِهِمْ ذِكْرًا، وَكُلُّ تَأَمُّلَاتِهِمْ عِبْرَةً، وَكُلُّ فَرَاغِهِمْ عِبَادَةً، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَسَّعَ الْإِسْلَامُ التَّعَامُلَ مَعَ كُلِّ مَا تَتَطَلَّبُهُ الْفِطَرُ الْبَشَرِيَّةُ؛ مِنْ فَرَحٍ وَتَرَحٍ، وَضَحْكٍ وَبُكَاءٍ، وَلَهْوٍ وَمَرَحٍ، فِي حُدُودِ مَا شَرَعَهُ اللهُ، مَحْكُومًا بِآدَابِ الْإِسْلَامِ وَحُدُودِهِ.
عِبَادَ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ يُرَغِّبُ فِي اسْتِغْلَالِ النِّعَمِ مِنْ صِحَّةٍ وَفَرَاغٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالاسْتِفَادَةُ مِنْهُمَا فِيمَا يُرْضِي اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُعَمِّرُ صِحَّتَهُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَلَا بِمَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُعَمِّرُ فَرَاغَهُ بِمَا يَنْفَعُ، بَلْ فَرَاغُهُ وَصِحَّتُهُ ضَائِعَةٌ فِي أَشْيَاءَ تَافِهَةٍ، فِي النَّوْمِ أَوِ اللَّعِبِ وَنَحْوِهِ، لَيْسَ عِنْدَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَوَقْتِ فَرَاغِهِ يُرْضِي بِهِ رَبَّهُ، أَوْ يَنْفَعُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أُمَّتَهُ.
فَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْأَمْرَانِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ، وَكَسِلَ عَنِ الطَّاعَاتِ؛ فَهُوَ الْمَغْبُونُ الْخَاسِرُ!
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ شَغْلَ الْفَرَاغِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْفَرَحِ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُهُ، بَلْ قَدْ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ إِلَيْهِ وَيَزْدَادُ عِنْدَ وُجُودِ مُوجِبَاتِ الْفَرَاغِ كَالْعُطَلِ الدِّرَاسِيَّةِ وَالْإِجَازَاتِ، وَهِيَ غَالِبًا مَا تَكُونُ عَشْوَائِيَّةً غَيْرَ مُنَظَّمَةٍ، يَنْقُصُهَا الْهَدَفُ السَّلِيمُ، لَا تَحْكُمُهَا ضَوَابِطُ زَمَانِيَّةٌ وَلَا مَكَانِيَّةٌ، فَضْلًا عَنِ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.
التَّرْوِيحُ وَالتَّرْفِيهُ -عِبَادَ اللهِ- هُوَ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى النَّفْسِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنْهَا، وَتَجْدِيدُ نَشَاطِهَا، وَإِبْعَادُ السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ عَنْهَا، وَوَاقِعُ النَّبِيِّ ﷺ يُؤَكِّدُ أَحَقِّيَّةَ هَذَا الْجَانِبِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، جاءَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مُنْحَرِفِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَمْرَ جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ
وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "أَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ، وَالْتَمِسُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ".
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ ﷺ يَبْدُو؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ يَبْدُو إِلَى هَذِهِ التِّلَاعِ. رواه أبو داود.
فكانَ ﷺ يَذهبُ إِلَى أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ، وَإِلَى الْبَادِيَةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي يَكُونُ أَسْفَلُ مِنْهَا مَسِيلًا لِمَائِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَذْهَبُ أحياناً بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ، لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ.
إِنَّ حَاجَةَ النَّفْسِ إِلَى الاسْتِجْمَامِ وَالتَّرْوِيحِ بَعْدَ الْإِرْهَاقِ وَالْعَمَلِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ تَعَبًا وَمَلَلًا، حَتَّى يُرَوِّحَ عَنْهَا، وَيُعِيدَ لِلنَّفْسِ نَشَاطَهَا، وَيُذْهِبَ عَنْهَا كَدَرَهَا وَرَهَقَهَا.
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُطْلِقَ لِنَفْسِهِ الْعِنَانَ فِي التَّرْوِيحِ، وَلَا أَنْ يُشْغَلَ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ تَضِيعَ بِسَبَبِهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُقُوقُ وَالْوَاجِبَاتُ، فَإِبَاحَةُ التَّرْوِيحِ وَسْطَ أَعْبَاءِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا، مَا هُوَ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ شَحْذِ الْهِمَّةِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَى تَكَالِيفِهِ، وَبِهَذَا يُفْهَمُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِحَنْظَلَةَ بْنِ عَامِرٍ: "وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً".
فَاللَّهْوُ الْمُنْفَتِحُ -عِبَادَ اللهِ- وَالَّذِي لَا يُضْبَطُ بِالْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ، إِنَّهُ وَلَا شَكَّ يَدُلُّ عَلَى غِيَابِ مَفْهُومِ الْحَيَاةِ وَالْمَقْصَدِ مِنْهَا.
وَيَا لَلَّهِ كَمْ مِنْ لَذَّةِ سَاعَةٍ فِي لَهْوٍ مُحَرَّمٍ، وَارْتِكَابٍ لِمُنْكَرٍ يُغْضِبُ اللهَ تَعَالَى، أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا، {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وَلَنِعْمَ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّهُ لَا نَعِيمَ دَائِمَ يُتَلَذَّذُ بِهِ، وَلَا تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إِلَى تَغْيِيرِهِ وَتَرْكِهِ وَلَا التَّحَوُّلِ عَنْهُ، إِلَّا مَا أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى فِي جِنَانِهِ لِمَنْ عَمَرَ هَذِهِ الدُّنْيَا بِالصَّالِحَاتِ، وَاشْتَغَلَ فِيهَا بِهَدْيِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} أَيْ لَا يَطْلُبُونَ تَحْوِيلًا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَقَدْ كَمُلَ لَهُمُ النَّعِيمُ وَتَمَّ.
نَسْأَلُ اللهَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْحَلِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، الْفَرْدِ الصَّمَدِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
عِبَادَ اللهِ: صَلَاحُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ أَعْظَمُ غَنِيمَةٍ، وَإِنَّ وَسَائِلَ قَضَاءِ الْإِجَازَاتِ مُتَيَسِّرَةٌ وَمُنْتَشِرَةٌ، مِنْهَا مَا يَزِيدُ الْإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ، أَوْ يُكْسِبُ الْمَهَارَاتِ وَيُنَمِّيهَا، وَيَقْضِي عَلَى الْفَرَاغِ وَالْمَلَلِ، فَهَنَاكَ بَرَامِجُ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأُخْرَى لِحِفْظِ حَدِيثِ الْمُصْطَفَى ﷺ، وَهَنَاكَ دُورٌ وَمَسَاجِدُ وَمَرَاكِزُ بِهَا بَرَامِجُ تُنَمِّي الْمَهَارَاتِ الْحَيَاتِيَّةَ وَالاجْتِمَاعِيَّةَ وَالْمِهْنِيَّةَ، وَتُكْسِبُ اللُّغَاتِ وَتَصْقِلُ الشَّخْصِيَّةَ، وَكُلُّ أَحَدٍ أَدْرَى بِمَا يَنْفَعُ وَلَدَهُ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يَتَحَرَّى الْأَيْدِيَ الْأَمِينَةَ الَّتِي تَرْعَى ابْنَهُ وَتُرَبِّيهِ، وَتَأْخُذُ بِيَدِهِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مَا يَصْرِفُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ مَالٍ، وَمَا يُبْذَلُ مِنْ جُهْدٍ وَوَقْتٍ، فِي سَبِيلِ صَلَاحِ أَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَتَنْمِيَتِهِمْ وَرِعَايَتِهِمْ، لَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَشَارِيعِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ، وَكَمْ سَيَجْنِي الْوَالِدَانِ مِنْ صَلَاحِ أَبْنَائِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يُخْرِجُ نَبَاتَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكَدًا.
وَفِي الْمُقَابِلِ إِهْمَالُ الْوَالِدَيْنِ لِمَنْ فِي ذِمَّتِهِمَا مِنَ الْأَوْلَادِ سَبَبٌ لِبُعْدِهِمْ عَنْ دِينِ اللهِ، وَارْتِكَابِهِمُ الْفَوَاحِشَ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَتَسْلِيمِهِمْ لِرُفْقَةِ سُوءٍ وَأَصْحَابِ رَذِيلَةٍ وَفِسْقٍ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ".
فَالْحَذَرُ وَأَخْذُ الْحَيْطَةِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَكْرُوهِ، وَاجْتِنَابُ التَّهَاوُنِ وَالْإِهْمَالِ، فَمِنْ أَبْنَائِنَا مَنْ هُمْ صِغَارٌ أَغْرَارٌ، يُخْدَعُونَ وَيُسْتَجَرُّونَ.
وَكَمْ وَقَعَ فِي شِرَاكِ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذِيلَةِ وَمُرَوِّجِي الْمُخَدِّرَاتِ وَالْأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ بِسَبَبِ الاسْتِرْسَالِ وَالْإِهْمَالِ، وَقِلَّةِ التَّيَقُّظِ وَالتَّحَفُّظِ، ففَسَادُ الشَّبَابِ والفَتَياتِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
فَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَبْحَثُوا لِفَلَذَاتِ أَكْبَادِهِمْ مَا يَصُونُهُنَّ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَكَارِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
هَذَا وَصَلُّوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ صَاحِبِ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ.
رَبَّنَا اجْعَلْنَا مُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءَنَا.
المرفقات
1751019487_فإذا فرغت فانصب-للجوال.pdf