فريضة من الله - (الميراث)
عبدالله بن محمد حفني
(الخُطْبَةُ الأُولَى)
الحَمْدُ لِلَّهِ مَنْ اتَّقَاهُ وَقَاهُ ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبّ لَنَا سِوَاهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
قُل للفُؤاد وقَد تَمادَى غَمُّه *** مَالي أراك مُسَهّداً مَهمُوما
أومَا عَلِمتَ بأنّ ربَّكَ قَائلٌ *** صَلُّوا عَليه وسَلِّمُوا تَسلِيمَا
فبِهَا يُفَرّجُ كُلُّ كربٍ فادِحٍ *** وتَكُونُ ذُخراً للمَعَاد عظيما
يا أيُّها الراجون منه شَفَاعَةً *** صَلُّوا عَليه وسَلِّمُوا تَسلِيمَا
اللهم صلّ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهَدَاهُ .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١]
في غَزْوَةِ أُحُدٍ التي سَطَّرَ اللهُ أَحْداثَها في كِتابِهِ، وقُتِلَ فيها سَبْعُونَ مِن أَصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ ، وَنَزَلَ بِالمُسلِمِينَ مُصَابٌ جَلَلٌ بَيْنَ تِلْكَ الأَحْدَاثِ العَظِيمَةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: (أُطْلُبْ سَعْدَ بنَ الرَّبِيْعِ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ رَسُوْلُ اللهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟)، يَقُولُ: فَطُفْتُ بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُوْنَ ضَرْبَةً، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ ﷺ وَفِيْكُم عَينٌ تَطْرُفُ، ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ ، وَقُتِلَ شَهِيدًا - رضي الله عنه - .
قُتِلَ سَعدٌ - رضي الله عنه - وتَرَكَ زَوجَتَهُ وابنَتيهِ، فَحَزِنَا عَلى فِرَاقِهِ أَشَدَّ الحُزنِ، وَزَادَ مُصِيبَتَهُم مَا حَدَثَ لَهُم مِن الظَّلمِ، فَمَا الذي حَدَثَ؟
جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ: (يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ)، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: (أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ).
اللهُ أَكبَرُ .. بِبَرَكَةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ، تَتَنَزَّلُ آيَاتُ العَدْلِ مِنَ السَّمَاءِ، فَاللهُ تَعَالَى بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَوْزِيعَ المَوَارِيثِ عَلَى أَصْحَابِ الحُقُوقِ، وَجَعَلَهَا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ .
فَالْمَوَارِيثُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَقِسْمَةٌ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهَا، فَأَعْطَى لِكُلِّ صَاحِبِ حَقٍّ نَصِيبَهُ، فَلَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ وَلَا لِلْمُحَابَاةِ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [النساء: 13]
قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ شَرِيعَةٌ نَازِلَةٌ، وَفَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، وَمَنْ بَطَلَتْ أَمَانَتُهُ، وَظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ، أَسَاءَ القِسْمَةَ، وَخَانَ الشَّرِيكَ، وَأَكَلَ سَهْمَهُ، إِنْ نُوقِشَ حَقَدَ، وَإِنْ حُوسِبَ شَرَدَ، صَدَقَ اللَّهُ ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا﴾ [الفجر: ١٩] وَالتُّرَاثُ: هُوَ المِيرَاثُ، فَيَعْتَدِي فِي المِيرَاثِ، وَيَأْكُلُ مِيرَاثَهُ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ.
وَحَدِيثِي اليَوْمَ عَنْ أُنَاسٍ مَاطَلُّوا وَسَوَّفُوا فِي تَقْسِيمِ الإِرْثِ، وخصُّوا بعض الورثة دون بعض ، والنبي ﷺ يقول : «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه أبو داود ؛ فَوَقَعَتْ الشَّحْنَاءُ، وَحَصَلَ الهَجْرُ وَالبَغْضَاءُ، وَتَهَاجَرَ الإِخْوَانُ.
لَقَدْ قَرَأْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَبَانَ بِنَفْسِهِ جُلَّ أَحْكَامِ المِيرَاثِ؛ حَسْمًا لِلنِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ، فَقَالَ إِثْرَ آيَاتِ المَوَارِيثِ: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14)﴾ النساء: ١٣ - ١٤
فَلَا يَجُوزُ شَرْعًا تَأْخِيرُ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رحمهم الله - : "إِذَا مَاتَ المُوَرِّثُ فَإِنَّ أَمْوَالَهُ تَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ لِلْوَرَثَةِ مُبَاشَرَةً ، وَلاَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يُعَطِّلَ قِسْمَةَ المِيرَاثِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ الوَرَثَةُ عَلَى عَدَمِ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا لِمَصْلَحَةٍ ، فَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَغِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ فَيَجِبُ أَنْ يُعْطَى نَصِيبُهُ مِنَ المِيرَاثِ ، سَوَاءً كَانَ بِالنَّقْدِ ، أَوْ بِالبَيْعِ ، أَوْ بِالإِيجَارِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنثَى" .
أَمَّا أَنْ تَمْضِي الأَشْهُرُ وَالسَّنَوَاتُ تِلْوَ السَّنَوَاتِ، وَالتَّرِكَةُ لَمْ تُقْسَمْ فَهَذَا وَاللَّهِ لَا يَجُوزُ، وَكُلَّمَا طَالَ الوَقْتُ تَعَقَّدَتْ الأُمُورُ، وَسَاءَتْ العَلَاقَاتُ، بَلْ رُبَّمَا يَمُوتُ الإِخْوَةُ وَيَكْبُرُ بَنُوهُمْ دُونَ أَنْ تُقْسَمَ التَّرِكَةُ.
فَيَا مَنْ وَجَدَ مَالَ التَّرِكَةِ سَهْلًا ! مَهْلًا .
يَا مَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مِيرَاثِ الإِنَاثِ، وَأَغْرَاهُ ضَعْفُهُنَّ وَسُكُوتُهُنَّ وَحَيَاؤُهُنَّ .
يَا مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى مِيرَاثِ الأَيَامَى وَاليَتَامَى وَغَرَّهُ صِغَرِهِمْ وَعَجْزِهِمْ ؛ تَذَكَّرْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يقول : «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ» رواه ابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة .
يَا أَيُّهَا الوَصِيُّ ، وَيَا أَيُّهَا الوَلِيُّ ، اتَّقِ اللَّهَ فِي حُقُوقِ اليَتَامَى وَالوَارِثِينَ ، وبَادِرْ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ دون نقصٍ أو بخس ، لَا تُدَافِعْ بِالعُدَّةِ وَضَرْبِ الآجَالِ ، وَلَا تَظْلِمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالمَطَالِ ، فَإِنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً .
أقول قولي هذا ..
(الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ)
الحمدُ للهِ وحدهُ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدهُ.
تَقُولُ إِحْدَاهُنَّ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَرَحَّمَ عَلَى أَبِي، وَلَا أَدْعُو لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ أَنَّهُ ظَلَمَنِي فِي الْمِيرَاثِ، وَسَجَّلَ الْعَقَارَاتِ بِاسْمِ إِخْوَانِي الذُّكُورِ، وَبَدَلًا أَنْ يُوَاسُونِي وَيَكُونُوا لِي أَبًّا بَعْدَ الْأَبِّ، وَجَدْتُ نَفْسِي وَحِيدَةً أُصَارِعُ غَلَاءَ الْإِيجَارَاتِ، وَأُقَاتِلُ الْفَقْرَ حَتَّى أَجِدَ لُقْمَةَ الْحَيَاةِ.
فيَا مَنْ تَوَلَّى قِسْمَةَ التَّرِكَاتِ وَالأَمْوَالِ . .
فَرِّقْهُ اليَوْمَ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ ، فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُلَاقِيهِ .
فَوَصِيَّتِي لَكَ أَنْ تَتَّقِ مَوْلَاكَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِك الخِزْيُ وَالهَلَاكُ ، وَخُذْ الأَمْرَ بِزِمَامِهِ وَخِطَامِهِ ، وَلِزَامِهِ وَنِظَامِهِ .
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَارْزُقْنَا العَدْلَ وَالإحْسَانَ فِي أَهْلِينَا وَمَنْ يَلِينَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلِ المَالَ مُعِينًا لَنَا عَلَى مَرْضَاتِكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا عَائِذُونَ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.
اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ المُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ دِيَارَنَا، وَأَغْزِرْ أَمْطَارَنَا، وَطَيِّبْ أَقْوَاتَنَا، وَارْحَمْ أَمْوَاتَنَا، وَاجْمَعْ عَلَى الهُدَى شُؤُونَنَا، وَاقْضِ دُيُونَنَا.
اللَّهُمَّ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ احْفَظْ مَلِكَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ، وَجَزِّهِمْ عَنْ رَعِيَّتِهِمْ خَيْرًا، وَأَعِنْهُمْ بِبَطَانَةٍ صَالِحَةٍ عَلَى إِدَارَةِ مَمْلَكَتِهِمْ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ.
المرفقات
1737546972_26- فريضة من الله - الميراث.docx
1737550021_26- فريضة من الله - الميراث.pdf