فضائلُ عشر ذي الحِجَّة
الشيخ محمد بن هديب المهيدب رحمه الله
فضائلُ عشر ذي الحِجَّة([1])
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه ونتُوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ مِن شُرورِ أنفُسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرا.
أما بعد:
فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حقَّ التقوى.
أيُّها المسلمون:
مِن مِنَّةِ اللهِ سُبحانه وتعالى أنْ جَعَلَ لعبادِهِ الصالحينَ مَواسِمَ متكرِّرَةً في السَّنَة، يستكثِرون فيها من الأعمالِ الصالحة، ويتنافسون فيما يُقَرِّبُهُم إلى ربِّهِم ومَليكِهِم سُبحانه، ويُجْزِلُ لهم فيها بفضلِهِ وكرمِهِ الأجرَ والثواب.
ومِن هذه المَواسِمِ الفاضلةِ الشريفةِ: عشرُ ذي الحِجَّة، التي وَرَدَ في فضلها أدِلَّةٌ عديدةٌ في الكتابِ والسنة، مِن ذلك: قولُهُ جَلَّ شَأنُه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾([2])، قال ابنُ عمرَ رضي اللهُ عنهما: (هي شوال، وذو القَعدة، وعشرُ ذي الحِجَّة)([3])، ولفضلها ومَكانتِها فقد أقسمَ اللهُ تعالى بها فِي قولِه: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾([4])، قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: (المرادُ بها عشرُ ذي الحِجَّة، كما قاله ابنُ عباس، وابنُ الزبير، ومجاهد، وغيرُ واحدٍ من السلفِ والخَلَف)([5]).
أمَّا السنة: فما رواه ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أَحَبُّ إلى اللهِ من هذه الأيام» يَعني أيامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلا رجلٌ خرج بنفسِهِ ومالِهِ فلم يَرجِع مِن ذلك بشيء» أخرجه البخاري([6])، فَحَرِيٌّ بالمسلمِ أن يستقبل هذه الأيامَ الفاضلةَ بثلاثةِ أُمور، هي:
الأول: التوبةُ الصادقة، فالمسلمُ الفَطِنُ يستقبلُ مَواسِمَ الخيرِ عامَّةً بالتوبةِ الصادقةِ النَّصُوح، ذلك أنه ما حُرِمَ أحدٌ خيرًا إلا بسببِ ذُنوبِه، سواء كان خيرًا دينيًا أو دنيويَّا، ومِصداقُ ذلك في التنزيلِ: قولُهُ عزَّ وجلّ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾([7]).
والثاني: العَزْمُ الصادقِ على اغتنامها، وعِمارتِها بما يُرضي الله، فمَن عَزَمَ جادًّا أعانه الله، ومَن صَدَقَ اللهَ صَدَقَه الله، وهيَّأ له الأسبابَ المُوصِلةَ إلى الخير، وأعانه عليها؛ كما قال جَلَّ شأنُه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾([8]) فهو وَعْدٌ من الله، واللهُ لا يُخْلِفُ الميعاد.
وثالثُ هذه الأُمور: الكَفُّ عن الشَّعْرِ والأظافِر؛ فقد أخرج الإمامُ مسلمٌ عن أمِّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها أن النبيَّ ﷺ قال: «إذا رأيتُم هلالَ ذي الحِجَّةِ وأراد أحَدُكُمْ أن يُضَحِّي؛ فليُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وأظفارِه»([9])، وفي رواية: «فلا يأخُذْ مِن شَعْرِهِ ولا مِن أظفارِهِ حتى يُضَحِّي»([10])، قال الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ جِبرينَ رحمه الله: (وهذا النهيُ ظاهرُهُ أنه يَخُصُّ صاحبَ الأُضحية، ولا يَعُمُّ الزوجةَ ولا الأولاد، إلا إذا كان لأحدهم أُضحيةٌ تَخُصُّه، ولا بأسَ بِغسلِ الرأسِ ودَلْكِهِ ولو سقط منه شيءٌ من الشَّعْر).
عبادَ الله:
حَرِيٌّ بالمسلمِ أن يُكْثِرَ من الأعمالِ الصالحةِ في هذه الأيامِ الفاضلة، فمن ذلك: أداءُ الحجِّ والعُمْرة، وهو أفضلُ ما يُعْمَلُ فيها، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفارةٌ لِمَا بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلا الجنة» متفق عليه([11]).
ومن أهَمِّ الأعمالِ الصالحة: المحافظةُ على الصلاةِ في وقتها، وأن يُؤَدِّيَها على الوجهِ المطلوبِ الذي يُرْضي اللهَ سُبحانه، من التبكيرِ إلى الفرائض، والإكثارِ من النوافل؛ فإنها مِن أفضلِ القُرُبات، أخرج الإمامُ مسلمٌ عن ثوبانَ رضي اللهُ عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «عليك بِكثرةِ السجود؛ فإنك لن تسجُدَ للهِ سجدةً إلا رَفعكَ اللهُ بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة»([12]).
ومن القُرُباتِ: التكبيرُ والذِّكر؛ فقد أخرج الإمامُ أحمدُ عن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ما مِن أيامٍ أعظمُ عند اللهِ سُبحانه ولا أحَبُّ إليه العملُ فيهنَّ مِن هذه الأيامِ العشر، فأكثرِوا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميد»([13])، وقد ذكر البخاريُّ في صحيحه عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ أنهما كانا يخرجانِ إلى السوقِ في العشرِ فيُكبِّران، ويُكَبِّرُ الناسُ بتكبيرهما([14])، وروى إسحاقُ رحمه الله عن فقهاءِ التابعينَ أنهم كانوا يقولون في أيامِ العشر: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبر، لا إلهَ إلا الله واللهُ أكبر، اللهُ أكبرُ وللهِ الحمْد.
والتكبيرُ نوعان: مُطْلَقٌ وهو ما يكونُ في جميعِ الأوقاتِ مِن ليلٍ أو نهارٍ إلى صلاةِ العيد، ومُقَيَّدٌ وهو الذي يكونُ بعد الصلواتِ المكتوبةِ التي تُصَلَّى في جماعة، ويبدأُ لغيرِ الحُجاجِ مِن فجرِ يومِ عرفة، وللحُجاجِ مِن ظُهرِ يومِ النَّحْر، ويستمِرُّ إِلى صلاةِ العصرِ آخرَ أيامِ التشريق.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾([15])، قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما: (الأيامُ المعلوماتُ أيامُ العشر)([16]).
اللهُمَّ إنا نسألُك قلبًا سليما، ولسانًا ذاكرا، ونفْسًا خاشعة، وعينًا دامعة، وعِلمًا نافعا، وعملًا صالحًا مقبولا.
سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، نشهدُ ألا إلهَ إلا أنت، نستغفرُك ونتوبُ إليك.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي حَبَّبَ إلينا الإيمانَ وزيَّنهُ في قُلوبنا، وكَرَّهَ إلينا الكُفْرَ والفُسُوقَ والعصيان، نحمدُهُ ونشكُرُه، ونُثْني عليه الخيرَ كُلَّه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّم.
أما بعد:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، واجتهِدوا في الأعمالِ الصالحاتِ في هذه الأيامِ العشرِ المباركات، عليكم فيها بالصيام؛ فإنه مِن أفضلِ الأعمال، فإن اللهَ تعالى اصطفاهُ لنفْسِه؛ كما في الحديثِ القُدْسي: «الصومُ لي وأنا أجزي به، يدع شهوتَهُ وأكْلَه وشُربَه من أجْلي»([17])، فعلى المسلمِ أن يصُومَها، أو ما تَيَسَّرَ منها، وخاصةً يومَ عَرَفَةَ لِمَن لم يَكُن حاجًّا، فقد أخرج مسلمٌ رحمه اللهُ عن أبي قتادةَ عن النبيِّ ﷺ قال: «صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قبله والتي بعده»([18]).
وَتَذَكَّرْ -أيُّها المبارَكُ- قولَ الحقِّ جَلَّ جَلالُه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾([19])، فالصدقةُ في هذه الأيامِ من الأعمالِ الصالحة، فإنه ما نَقَص مالٌ من صدقة، بل تَزيدُه، بل تَزيدُه، بل تَزيدُه، وفي الحديث: «ما مِن يومٍ يُصْبِحُ العبادُ فيه إلا مَلَكانِ يَنزِلان، فيقولُ أحدُهُما: اللهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفا، ويقول الآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفا» متفق عليه([20]).
وبالجملةِ فالقُرُباتُ والطاعاتُ مِن ذِكرٍ وصلاةٍ وصيام، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن منكر، وتلاوةٍ للقرآنِ وغيرِها، يجبُ أن تُضاعَفَ في هذه الأيامِ الفاضلات.
اللهُمَّ بَلِّغنا فيما يُرْضيك آمالَنا، واختِم بالسعادةِ آجالَنا، ويَسِّرْ في الدارَينِ أمورَنا، واشرَح اللهُمَّ صُدُورَنا، ووفِّقْنا لما تُحِبُّ وترضى، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين في الآخرةِ والأولى.
اللهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
([1]) أُلقيت في 26/11/1417هـ.
([2]) البقرة: 197.
([3]) يُنظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (9229).
([4]) الفجر: 1-2.
([5]) "تفسير القرآن العظيم" (8/390).
([6]) بنحوه (969).
([7]) الشورى: 30.
([8]) العنكبوت: 69.
([9]) (1977).
([10]) أخرجها البيهقيُّ في "السنن الكبرى" (4435) وصحَّحها الألبانيُّ في "إرواء الغليل" (1163).
([11]) البخاري (1773) ومسلم (1349).
([12]) (488).
([13]) (5444)، (6154).
([14]) (978).
([15]) الحج: 28.
([16]) يُنظر: "السنن" لسعيد بن منصور (543).
([17]) أخرجه البخاري (7492) ومسلم (1151) بنحوه من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
([18]) (1162).
([19]) البقرة: 274.
([20]) البخاري (1442) ومسلم (1010) من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.