فضل الحج

د. منصور الصقعوب
1446/11/17 - 2025/05/15 19:00PM

 

الخطبة الأولى           

       9/11/1445هـ

بينما النبي r والجموع معه في ميقات ذي الحليفة، كلٌّ يُمَنِّي نفسه أن يصحب المصطفى r في هذه الرحلة العظيمة والحَجَّةِ الخالدة، مع بعد الشُّقة، وطول الطريق وشدَّةِ الحرّ، لكنه الحج.

بينما هم كذلك وإذ بأسماء بنت عميسٍ زوجةِ أبي بكر الصديق، يأتيها المخاض في الميقات، ثم تضع مولودها هناك، وما هو إلا أن وضعت، وإذا بالشوق يحدوها لرفقة الجموع إلى مكة للحج، فاستثفرت بثوبٍ ثم مضت مع الجموع.

 

يا عجباً؛ حديثة العهد بالولادة، وسفرٌ طويل، لن تبلغه إلا بشقِّ الأنفس، ثم حجٌ وعناء، كان بإمكانها أن تجلس فهي معذورة، لكنها تحاملت على نفسها ومضت.

تذكَّرتُ وأنا أقرأُ خبَرها أقواماً صحيحةً أبدانهم، قوية قواهم، لكن أقعدهم الكسل ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف عن الحج.

 

إذا جاء ذكر الشعيرة والفريضة، تعللوا بأعذار واهية من غلاء الأسعار وبعد الديار، ووقعوا في شَرَك التسويف، معللين أنفسهم بالحج إذا تيسرت الأمور، وتناسوا أن الأعمار ليست بأيديهم وأن الصوارف تزداد ولا تنقص ..

 همتهم تقوى وعزيمتهم تنشط حينما تكون الرحلة إلى الصحاري ولو بعدت، وإلى القفار ولو نأت، فإذا جاء ذكر الحج تعذّروا وتلكأوا، وابدعوا في التنظير عن المُعَوِّقات والغلاء، وأن الله لا يحب المسرفين، وأن الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وهذا والله حرمان.

 

وإلى هؤلاء نقول: الحج فريضةُ الدِّين وركن الإسلام، ومنه يعود الحاج كما ولدته أمه نقياً من الذنوب إذا قُبِل، وليس للحج إذا كان مبروراً جزاءٌ إلا الجنة.

 

فلأجل الحج يهون البذل، فهو أولى من سفرات السياحة وكماليات المقتنيات، وكلُّ مالٍ يُبذَل فيه يرجو فيه باذِلُه العوض، فهو ينفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، قاله r.

لأجل كل هذا فَنِداءٌ نوجهه لكل مسلمٍ لم يؤد فريضة الحج أنْ بادر، فالعوارِضُ تعرِض، والعمرُ يمضي، والمرء إن قدر اليوم فلا يدري هل يقدر بعده أم لا

وغبنٌ أن يسافر المرء لكل مكان، ولا يسافرُ للحج، وفي الخبر عنه r " من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة"

يقال هذا لمن لم يحج فرضه، لكي يكمل دينه إن استطاع للحج سبيلاً.

 

وكذا لمن حج فرضه كذلك، وقدر أن يكرر هذه الرحلة، فيكونَ مع الملبين، فالخيراتُ تُنال، والكرامة تحصل، لمن أدرك الحج نفلاً وفرضاً.

لكنه إذا كان لم يتيسر للمرء تصريحٌ للحج، وسيترتب على حجه مخالفةٌ لأمر، وارتكابٌ لمحظور، فما عند الله لا يُنال بمعصيته، وحجُّ النفل لا يَجعلُ المرء يرتكب المحظور لأجله، والواجب على من يلتمس رضا الله أن يمتثل للأمر ويطيع ولي الأمر، في هذا الأمر الذي قرر لمصلحة الحجيج.

 

ولا ريب أن كثيرين تتوق نفوسهم أن يكونوا مع الحجيج، وربما لا يحول بينهم وبين ذلك إلا طريق السفر.

ولكنَّ أماكن المشاعر لها طاقةٌ استيعابية، وخطط التفويج وُضِعت مراعيةً الأعداد القادمة، وإنَّ مِن الرفق بجميع الحجاج، ومِن مراعاة مصلحة العموم، أن لا يحج إلا من كان مُصرَّحاً له، ليستقيم الأمرُ على ما رُسِم له، وما تستوعبه المشاعر، ولو قال كل أحد: أنا لن أضيق على الناس فأنا واحد، لعسر ذلك وشق.

 

فمن بقي مراعياً ذلك برغم أن نفسه تتوق للحج، وقد علم الله منه صِدقَ العزم، وقوةَّ الرغبة، فيرجى له أن ينال أجر حجة، وهو في بلده، وفضلُ الله واسع، وفي هذا قال ابن باز:: إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم؛ فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب.

اللهم تقبل من الحجاج حجهم، اللهم صل على محمد

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده.

عباد الله: الحج رحلة عمر، وسفر عبودية، له شأن عظيم، وبه أداءُ رُكنٍ الإسلام، فمن تيسَّر له ذلك فليحرص أن يتفقه في أحكامه، ويستوعب حِكَمه، ويتحلى بآدابه، وأن يسعى أن تكون حجته على هديه نبيه r، آخذاً بالسنن والمستحبات، عارفاً بنسكه وصفته، ومُجمَلِ أحكامِه وفقهه.

 

فإن أشكل عليه أمرٌ سأل أهل العلم، وليتق الله ما استطاع، وليسأل الله أن يتقبل منه، وليبتعد عن السمعة والرياء، فليس الحجُّ للتفاخر والتباهي، وليس للترفه والبحث عن الصيت والذكر، وقد حج النبي r عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تساوي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ ‌حَجَّةٌ ‌لَا ‌رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ".

 

وليعلم أنه لا بُدَّ في الحجِّ مِن مشقة، ولكن ليُغَلِّبِ الرفقَ مع الناس، والسكينةَ مع نفسه، والتؤدةَ في أعماله وتحركاته، وليحذر أن يبوء بإثمٍ لأجل فظاظة قول، أو إغلاظ فعلٍ مع حاجٍ زاحمه في طريق، أو ضايقه في مَشعر، فتلك الأماكن أماكن سكينة، كان نبينا عليه السلام يكرر على الناس قوله (عليكم السكينة، فإن البّر ليس بالإيضاع)

المرفقات

1747324835_الحج.docx

1747324837_الحج.pdf

المشاهدات 263 | التعليقات 0