فضل الطاعة وعشر ذي الحجة
د. منصور الصقعوب
الخطبة الأولى :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضى، والشكر له على ما أولى من نعم وأسدى، الإله الذي لا تخفى عليه خافية والسرّ عنده علانية وهو عالم السر والنجوى.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندّخرها عنده
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى إلى يوم الدين
أصحاب الطاعات والمبادرون إلى الصالحات، المسابقون إلى الجنات لهم عند الله شأن ليس لغيرهم من بقية المخلوقات، فهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وهم أولياء الله، هم زينة العِباد، والرابحون في الدنيا ويومَ المعاد، ذلك لأنهم عرفوا الدنيا وما لأجله خُلِقوا، فأطاعوا ربهم، ولم يُقدِّموا لذة فانية على نعيم جنة دائمة، فصارت الطاعة لذتُهم والمسابقةُ والمسارعة للخير طِلبتُهم.
عملهم لن يُنسى، وسعيهم لن يُكفر، وطاعاتهم مكتوبة ومحصاة، عند رب الأرض والسماوات، تحيتهم في الجنة سلام، فطوبى لهم وحسن مآب.
لا يخافون ظلماً ولا هضماً، ولا يبأسون دنياً ولا أخرى، وأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى
معشر الكرام: ليسوا سواء، أقوامٌ للمعصية ملازمون، وفي التفريط سادرون، وأقوامٌ على الطاعة مقبلون، ولمواسم الخير مستغلون، قاموا بالفرائض وأكثروا بعد ذلك من النوافل، ولهم مع أبواب الخير أحوال، وهم في مواسم الطاعة نِعمَ الرجال، وأولئك هم المفلحون.
ونظرةٌ في القرآن تُبين لك قدر هؤلاء عند الرحمن، أثنى عليهم ووعدهم وجازاهم بخير ما يُطلب دنيا وآخرة
فأهل الطاعة جعل الله لهم وُدَّ الناس وحبهَّم، فالقلوبُ تَوَدُّهم لأن الله أحبَّهم، وفي القرآن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) قال ابن عباس: محبة الناس في الدنيا.
وقال هَرِمُ بن حيان: ما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.
ويوم أن ترى شيوع الضنك والحزن، وضيقَ الصدر والاكتئاب فاذكر أن الله يعطي أهل طاعته سعادةَ الدنيا وطمأنينتها وأنسها، ربما لم يملك المرءُ منهم أسباب السعادة الظاهرة، لكن في قلبه السعادة أمثالَ الجبال لأنه قَرُبَ من الربِّ المتعال، وفي القرآن يقول الله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وفسر ابن عباس الحياة الطيبة بأنها السعادة، وفُسرت بأنها القناعة، وبأنها الرزق الطيب الحلال، وكل ذلك مطلب لكل إنسان، لكن الله يرزقها أهل الإيمان.
أيها المبارك: والمرءُ يَقْدُمُ بعد موته على أهوالٍ عظام، فقبرٌ وحساب، وميزانٌ وصراط وجنة ونار، والله يُلقي على أهل طاعته الأمان فلا خوف عليهم مما أمامهم، ولا يحزنون على ما خلفوا وراءهم، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
يا كرام: وصلاحُ البال، واستقامةُ الحال، في الدنيا ويوم المآل أمرٌ جعله الله لأهل الإيمان فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)
والله وعدَ أهل الطاعة بأنهم يملكون الأرض، يكونون أئمةً للناس، خلفاءَ على الأرض، ولا عجب فالأرض لله وسيورثها عبادَه الصالحين، وفي القرآن وعدٌ لا يتخلف (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
أيها الكرام: ورِزقُ الدنيا والآخرة ينالُه أصحابُ الطاعة، ولن يتحقق لأحدٍ الرزقُ الكريم إلا إن كان من أهل الطاعة، غيرُهم قد ينال رزقاً دنيوياً وقد يكون وبالاً، وأما أهل الطاعة فالله قال عنهم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)
والمرء تُثقِلُ كاهلَه ذنوبُه، وكرامَةُ اللهِ لأهل طاعته أن يغفر زلاتهم، ويغسل حوباتِهم، وفي القرآن يقول الله (والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)
وأعظم كرامة من الله لأهل طاعته، أن يورثهم جنته، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)
كل هذا أيها الفضلاء يهبه الله لأهل الطاعة، ولا سواء بين أهل الخير والإيمان وبين أهل العصيان، وفي القرآن يقول الله مبيناً فضيلة أهلِ الطاعة على غيرهم (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ)
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) فاللهم حبب إلينا الطاعات واشرح صدورنا للصالحات واعمر أوقاتنا بالقربات.
الحمد لله وحده عباد الله: إذا كان ما سبق هو شيء من كرامة الله لأهل الطاعة، فنحن اليوم نتهيأ لاستقبال أزكى المواسم، وأشرف الأيام، موسم الحسنات، وميدان المنافسة على الطاعات، بين أيدينا أفضلُ الأيام، وغُرّة العام، أيامٌ قال عنها المصطفى r " ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إليهن من هذه العشر يعني عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد في سبيل الله..." وإن مجرّد تصور هذا الحديث ينبيك قدر التفريط الذي نقع فيه حين نقصر فيها.
قال ابن رجب رحمه الله: لمّا كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين "
يا مؤمن: العبادات أبواب، وبين يديك الموسم الأكبر، فلن أُعَدِّد عليك صورَ الطاعات فذاك مما لا يخفى، ولكني أقول لنفسي ولك: إن إدراك مواسم المضاعفة فرصة، والفرص لا تأتي دائماً، أنت اليوم حيٌّ، وسيأتي يومٌ لن تكون فيه موجوداً، وإن أعظم أمنية يتمناها من ثووا في القبور أن يُدرِكوا مواسم الطاعات ليقدموا لأنفسهم الصالحات.
إن لحظة تمضيها اليوم في عبادةٍ لهي أحبُّ إليك غداً من الدنيا وما فيها، فالهمة الهمة والبدار البدار .
وإن من كرامات الله لهذه الأمة أن مواسم الطاعات تختصر الزمن، فبها تعمل طاعات تغنيك عن كدر عيش سنوات، وتسبق بها من عُمِّر قرناً وأكثر.
وإذا كانت الطاعة في كل آنٍ خير، فهي في مواسم المضاعفة أعظمُ وأجلُّ، وسيعرف المؤمن قدر مواسم المضاعفة يوم يلقى ربه فيرى أجوراً مضاعفة وكنوزاً مدخرة حين قدَر أيام المضاعفة قدرها.
وبعد يا موفق: فكل طاعة تستطيعُ فِعلها في العشر فاذكر أنها أفضلُ منها في غيرها، ومِن رحمة الله أن العمل الفضيل في العشر لم يُحَدَّ بعملٍ واحد، بل كلُ طاعةٍ فيه هي أعظمُ وأشرف من غيرها.
فأقبل بما استطعت واركض إلى الله ما قدرت، أطعم جائعاً، اختم في العشر القرآن مرةً أو أكثر، صَلِّ صلاة، صم ما تيسر منها، صِل رحماً وأحسن خلقاً، الهج في يومك بالتكبير والذكر، ومع هذا فلا تنسى أن من الطاعة ترك المعصية، فجاهد النفس أن تخرج العشر وأنت قد غلبت الشيطان وأقللت من العصيان، فالمعصية في العشر أعظم جرماً منها في غيرها، وستنقضي العشر، وسيمر الشهر، وسينتهي عما قريبٍ العمر، وسيجدُ المجدّون العاملون أجرَ ما كانوا يعملون، وسيعلم المفرطون أي منقلب ينقلبون.
المرفقات
1747811058_فضيلة الطاعة ووصايا بين يدي عشر ذي الحجة.docx
1747811059_فضيلة الطاعة ووصايا بين يدي عشر ذي الحجة.pdf