فَضْلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَا يُشْرَعُ فِيهَا.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكريمِ المنَّّانِ، واسعِ الجودِ والإحسانِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلى النِّعَمِ والْهِبَاتِ، وأشْكُرُهُ عَلى مَا أَوْدَعَ في الأيامِ مِنَ النفحاتِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة: [119].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ الْعُمْرَ مَيْدَانٌ لِلْعَمَلِ وَالْجِدِّ، وَمَزْرَعَةٌ لِلْغَرْسِ وَالْحَرْثِ، وَالموَفَّقُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الأَجَلَ لا يُؤَخَّرُ، وَالسَّعْيَ لا يُؤَجَّلُ، فَيُحْسِنُ اسْتِثْمَارَ مَوَاسِمَ الْبَذْرِ، وَأَوْقَاتَ الْحَرْثِ قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) الفرقان: [62] وَقَالَ ﷺ: (ألا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟) قالوا: نَعَمْ، قَالَ: (خِيارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمارًا وأَحْسَنُكُمْ أَعْمالًا) أخرجه أحمد (7212) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3361).
عِبَادَ اللهِ: انْظُرُوا إِلى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا يَنْقَضِي مَوْسِمٌ للخيرِ، إلا ويَتْلُوهُ مَوْسِمٌ آخرُ، آلاءُ اللهِ تَتَوَالَى، ونَفَحَاتُهُ تَتْرَى، ونِعَمُهُ تَتَتَابَعُ عَلَى خَلْقِهِ، فبِالأَمْسِ ودَّعْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وهَا نَحْنُ الْيَوْمَ نستقبلُ عَشْرًا مُبَارَكَات، وَأَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ تَتَجَدَّدُ فيهَا الْعَطَايَا الإلَهِيَّةُ، وَالْهِبَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ؛ لِيَزْدَادَ المؤمنونَ إيمانًا معَ إيمانِهِم ويَنْعَمُوا بِمَوَاسِمَ إيمَانِيَّةٍ تكونُ مِنْحَةً للعَابِدِينَ وفُرْصَةً للعصاةِ والمذنبينَ.
أَيُّهَا المؤمنونَ: وَعَشْرُُ ذِي الْحِجََّّةِ أَقْسَمََ بِهَا اللهُ عزَّ وجَلَّ؛ لِعَظِيمِ فَضْلِهَا، والتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) الفجر: ]1-2] وقَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيّامِ، يعني أيّامَ العشرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) أخرجه أبو داود (2438) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ، وَيَوْم النَّحْرِ أَعْظَم أيَّامِ الدُّنْيَا، قالَ النبيُّ ﷺ: (أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقُرِّ) واجتمعَ فيها أُمَّهَات العبادَةِ وهِيَ الصَّلاةُ والصِّيَامُ والصَّدَقَةُ والْحَجُّ، وَلا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا.
أيُّهَا المؤمنونَ: وأفْضَلُ مَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ المُسْلِمُ عَشْر ذِي الحِجَّة تَعْظِيمُهَا، واسْتِشْعَارُ فَضْلِهَا، وَصِدْقُ النِّيَّة فِي اغْتِنَامِهَا، فالمسلمُ مَأْجُورٌ بِنِيَّتِهِ، وَمَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ، وَمَتَى عَلِمَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنْ عَبْدِهِ خَيْرًا أَعَانَهُ عَلَيْهِ، فَتَحَيَّنُوا مَوَاسِمَ الْعِبَادَةِ، وَأَزْمِنَةَ الطَّاعَةِ، وَأَحْسِنُوا اسْتِقْبَالهَا، وَجِدُّوا فِي طَلَبِهَا، وتَهَيَّؤُ لاغْتِنَامِهَا. قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج: [32].
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالأَعْمَالِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: المُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلاةِ، والتَّبْكِيرُ لَهَا والاسْتِزَادَةُ مِنَ النَّوافِلِ، والْحِرْصُ عَلَيْهَا.
ثانيا: الصِّيَامُ، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة؛ ويخص منها يوم عَرَفَةَ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: (صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ والسنَةَ التي بَعْدَهُ) أخرجه ابن حبان (2632) فَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لِشَدَّةِ الْحَرِّ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلا يَغْفَلَنَّ عَنْ يَوْمِ عَرَفَة، قالَ ﷺ: (ما مِن يَومٍ أكْثَرَ مِن أنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عَبْدًا مِنَ النّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهِي بهِمِ المَلائِكَةَ، فيَقولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟) أخرجه مسلم: (1348).
ثالثًا: الأُضْحِيَةُ: وهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَن النَّبِيِّ ﷺ فَإِذَا دَخَلَت الْعَشْرُ، فَلا يَأْخُذ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّي مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظِفْرِهِ، إلا لِحَاجَةٍ كَجُرْحٍ وَغَيرِهِ، وهَذَا خَاصٌّ بِالمضَحِّي فَقَط دُونَ أَهْل بَيْتِهِ.
رابعًا: الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ والتَّحْمِيدِ والتَّهْلِيلِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ في الْبُيُوتِ والأَسْوَاقِ لِقَوْلِهِ ﷺ (.. فأَكثِرُوا فيهِنَّ مِنَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ) أخرجه أحمد (5446)
والتَّكْبِيرَ المُطْلَق يَبْدَأُ بِثُبُوتِ هِلالِ شَهْرِ ذِي الْحجَّةِ وَيَسْتَمِرُّ إِلى غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشَر، والتَّكْبِيرُ المقيَّدُ: يَكُونُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مِنْ فَجْرِ يَوْم عَرَفَة (لِغَيْرِ الْحَاجّ) إِلَى عَصْر ِالثَّالِثِ عَشَر مِن ذِي الحِجَّةِ، وَلِلْحَاجِّ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشرَ مِنْ ذِي الحِجَّة. أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) البقرة: [203]. بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الْحَمْدُ للهِ ولي الصالحين، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ: فدُونَكُم الأَيَّامَ الْعَشْر مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَارِعُوا فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ وَاسْتَبِقُوا الْخَيرَاتِ وَبَادِرُوا بِالطَّاعَاتِ، واعْلَمُوا أنَّ مَوَاسِمَ الْخَيرِ أَوْسَعُ بَابٍ للتَّوْبَةِ وَأفْسَحُ مَيْدَانٍ لِلْعِبَادَةِ والطَّاعَةِ، فَلا يشُوبُهَا المسلمُ بِالمعَاصِي، وَلا يُعَكِّرُهَا بِالذُّنُوبِ فَكَمَا أنَّ الطَّاعَات سَبَبٌ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّ المعَاصِي مُوجِبَةٌ لِلطَّرْدِ وَالإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَإِنَّ المْغُبْونَ حَقًّا مَنْ يُطْرَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجَلّ فِي وَقْتٍ دَعَاهُ اللهُ فِيهِ إِلَى رَحْمَتِهِ وَوَعَدَهُ بِفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ. اللَّهُمَّ اشْمَلْنَا بِعَفْوِكَ، وَخُصَّنَا بِرَحْمَتِكَ وَأَدْخِلْنَا جَنَّتَكَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَالمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، وَرِجَالَ أَمْنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَمْنِ الطُّرُقِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 25 /11 /1446هـ