فن التغافل

هلال الهاجري
1447/02/13 - 2025/08/07 07:12AM

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:

جَلَسَتْ عَائشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا يَومَاً مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ تَحَدِّثُهُ عَن نِسوَةٍ تَعَاهَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا، وفِي حَدِيثِهَا: (قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ ‌دَخَلَ ‌فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ)، قَالَ شُرَّاحُ الحَدِيثِ: وَهَذا مَدحٌ بَليغٌ، فَهِيَ تَصِفُهُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ بِالفَهْدِ فِي تَظَاهُرِهِ بِالنَّومِ تَغَافُلاً عَمَّا فِي البَيتِ مِن المَعَايِبِ والقُصُورِ، (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) فَهُوَ شَدِيدُ الْكَرَمِ، كَثِيرُ التَّغَاضِي، لَا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ، وَإِذَا جَاءَ بِشَيْءٍ لِبَيْتِهِ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُيَ تَصِفُهُ بالتَّغَافُلِ، وَالتَّغَافُلُ شِيمَةُ الفُضَلاءِ والكِرامِ، وبِهِ ثَبَاتُ الحُبِّ والصَّفَاءِ والوِئامِ.

يَبقَى التَّغَافُلُ في الأَنَام ِفَضِيلَةً *** إنَّ التَّغَافًلَ شِيمَةُ العُقَلاءِ

نَحتَاجُ إلى التَّغَافُلِ أَحيَاناً وَعَدَمِ التَّدقِيقِ، حَتى يَدومَ لَنَا زَوجَةٌ وَأَخٌ وَصَدِيقٌ، فَهَا هُوَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ يَتغَافَلُ عَن بَعضِ الزَّلاتِ، ولا يُعَاتِبُ عَلى كُلِّ الهَفَوَاتِ، كَمَا أَخبَرَ تَعَالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فَعَرَّفَهَا بَعضَ مَا كَانَ بَينَهُمَا، وَأَعرَضَ عَن البَعضِ؛ تَكرُّمًا وَصَفَحَاً، وَقَد قِيلَ: مَا استَقصَى كَرِيمٌ قَطْ، بَل يَعفُو ويَتَجَاوزُ ويَتَغَافَلُ.  

لَولا التَّغَافُلُ عَن أَشيَاءَ نَعرِفُهَا *** مَا طَابَ عَيشٌ وَلا دَامَتْ مَوَدَّاتُ

إنَّ مِنَ المُتعِبِ جِدَّاً أَن تَقِفَ مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ أَو فِعلٍ، بَل إنَّ عِلاجَ بَعضِ المَوَاقِفِ أَن لا يَكونَ لَكَ رَدَّةُ فِعلٍ، يَقُولُ الإمِامُ أَحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: (العافيةُ عَشرةُ أجزاءٍ، كُلُّها في التَّغافُلِ)، واسمَعُوا إلى مَوقِفِ يُوسَفَ عَليهِ السَّلامِ مَع إخوَتِهِ الذِينَ فَعَلُوا فِيهِ مَا فَعَلُوا مِنَ الظُّلمِ، ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُ بالسَّرِقَةِ فَيُقَابلُ ذَلِكَ بالتَّغَافُلِ والحِلمِ، كَمَا أَخبَرَ سُبحَانَهُ: (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)، فَلَمْ يُظهِرْ مَا في نَفسِهِ مِنْ العِتَابِ والتَّكذِيبِ، بَل طَوى صَفحَةَ المَاضِي بَالمَغفِرَةِ وَعَدَمِ التَّثرِيبِ.

وَهَا أَنَا أَلقَى في التَّغَافُلِ رَاحَتي *** بِهِ طَابَ لي عَيْشي وَطَابَتْ لَيَالِيَا

كَثِيرُ العَتَبِ واللَّومِ لا يبَقى لَهُ صَاحِبٌ ولا صَدِيقٌ، بَل سَيَعِيشُ هُوَ وَمَن حَولَهُ فِي نَكَدٍ وَضِيقٍ، لأَنَّ الإنسَانَ مَجبُولٌ عَلى الخَطأِ والنِّسيَانِ، والمُروءةُ فِي التَّغافُلِ عَنْ زَلَلِ الإخوَانِ، يَقُولُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟، سُبحَانَ اللهِ .. غُلامٌ فِي سِنِّ العَاشِرَةِ والمُتَوَّقعُ أَن يَكونَ الخَطَأُ عِندَهُ أَكثرَ مِنَ الصَّوابِ، وَمَعَ ذَلِكَ لا تَذَمُّرَ ولا تَأَفُّفَ ولا مَلامَةَ ولا عِتَابَ.

وَكَمْ تَغَافَلتُ عَن أَشيَاءَ أَعرِفُهَا *** وَكَمْ تَجَاهَلتُ قَولاً كَانَ يُؤذِينِي

وَكَمْ تَغَاضِيتُ لا جُبنَاً وَلا خَوَرَاً *** هِيَ المُروءَةُ مِن طَبعِي وَمِن دِينِي

ولِهَذَا لا يَنَالُ الشَّرفَ والسِّيَادةَ مِنَ الرِّجَالِ، إلا مَنْ كَانَ مُتَغَافِلاً كَرِيمَ الخِصَالِ، قَالَ ابنُ الأَثيرِ فِي تَاريخِهِ عَن صَلاحِ الدِّينِ الأَيُوبيِّ: (وَكَانَ رَحِمَهُ اللهُ حَسَنَ الأَخلاقِ مُتَوَاضِعاً، كَثيرَ التَّغافُلِ عَن ذُنوبِ أَصحَابِهِ، يَسمَعُ مِن أحَدِهم مَا يَكرَهُ ولا يُعلِمُهُ بِذَلِكَ ولا يَتَغيَّرُ عَليهِ، وَبَلغَني أَنَّهُ كَانَ يَوماً جَالِسَاً وَعِندَهُ جَمَاعةٌ، فَرَمَى بَعضُ المماليكِ بَعضَاً بِسَرْمُوز -أَيْ: نَعْلٍ- فَأَخطَأَتْهُ، وَوَصَلَتْ إلى صَلاحِ الدِّينِ فَأَخطَأَتْهُ، وَوَقَعَتْ بِالقُربِ مِنهُ، فَالتَفَتَ إلى الجِهَةِ الأُخرَى يُكَلِّمُ جَليسَهُ لِيتَغَافَلَ عَنهَا).

لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ *** لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي

أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ الحَليمِ الغَفورِ، شَارحِ الصُّدورِ وَمُيسِّرِ الأُمورِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ البَرُّ الشَّكورُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَليهِ وَعَلَى آلهِ وَصَحبِه إلى يَومِ النُّشورِ، أَمَّا بَعْدُ:

مِن أَلطفِ أَنواعِ التَّغَافُلِ مَعَ النَّاسِ، هُوَ التَّغَافُلُ عَمَّا يُسَبِّبُ الإحراجِ مِنَ الأقوالِ والأَفعَالِ، فَكَأَنَّكَ مَا رَأيتَ ولا سَمِعتَ ولا فَعَلَ ولا قَالَ، فَهَذَا حَاتِمُ الأَصَمُّ الذِي لَقَّبَهُ الذَّهَبيُّ بِلقمَانَ هَذهِ الأُمَّةِ، يَقُولُ أَبو عَليٍّ الدَّقَّاقُ: جَاءَتْ امرأةٌ فَسَأَلتْ حَاتِمَاَ عَن مَسأَلةٍ، فَاتَّفَق أَنَّهُ خَرَجَ مِنهَا صَوتٌ في تِلكَ الحَالَةِ، فَخَجِلَتْ، فَقَالَ حَاتِمٌ: ارفَعِي صَوتَكِ، فَأوَهَمَهَا أَنَّه أَصَمُّ، فَسُرَّتْ المَرأةُ بِذَلكَ، وَقَالتْ: إنَّهُ لم يَسمَعِ الصَّوتَ؛ فلُقِّبَ بحاتِمٍ الأصَمِّ، أَخلاقٌ كَبِيرةٌ تُحفَظُ بِهَا كَرَامةُ وَمَشَاعِرُ النَّاسِ.

فَإنَّ كَرِيمَ النَّاسِ يَستُرُ مَا رَأى *** مِنَ العَيبِ وَالنَّقصِ بِحُسنِ ‌التَّغَافُلِ

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، التَّغَافُلُ لا يَعنِي عَدَمَ النَّصِيحَةِ والتَّوجيهِ والمُحَاسَبَةِ، وإنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الوَقتِ المُنَاسِبِ والطَّريقَةِ المُنَاسِبَةِ، يَقُولُ الإمَامُ الحَافِظُ هَارونُ الحَمَّالُ: جَاءَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِاللَّيْلِ فَدَقَّ عَلَيَّ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا أَحْمَدُ، فَبَادَرْتُ أَنْ خَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَمَسَّانِي وَمَسَّيْتُهُ، قُلْتُ: حَاجَةٌ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَغَلَتِ الْيَوْمَ قَلْبِي، قُلْتُ: بِمَاذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: جُزْتُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ وَأَنْتَ ‌قَاعِدٌ ‌تُحَدِّثُ ‌النَّاسَ ‌فِي ‌الْفَيْءِ، وَالنَّاسُ فِي الشَّمْسِ بِأَيْدِيهِمُ الْأَقْلَامُ وَالدَّفَاتِرُ، لَا تَفْعَلْ مَرَّةً أُخْرَى، إِذَا قَعَدْتَ فَاقْعُدْ مَعَ النَّاسِ، اللهُ أَكبَرُ .. هَكَذَا يَكُونُ التَّغَافُلُ جَهرَاً، وتَكونُ النَّصِيحَةُ سِرَّاً.

أُحِـبُّ مِـنَ الإِخـوانِ كُلَّ مُوَاتي *** وَكُـلَّ غَضِيضِ الطَرفِ عَن عَثَراتي

فَمَن لي بِهَذا لَيتَ أَنَّي أَصَبتُهُ *** لَقاسـَمتُهُ مَا لِي مِنَ الحَسَناتِ

اللَّهُمَّ اهْدِنا لأَحْسَنِ الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، خُذْ بِنواصِينا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، اصْرِفْ عَنَّا السُّوءَ وَالفَحْشاءَ، اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْواها وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها أَنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلاها، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا حَيُّ يا قَيُّومُ، اللَّهُمَّ اكْشِفْ الضُّرَّ عَنْ إِخْوانِنا في كُلِّ مَكانٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُسْلِمينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوالَ إِخْوانِنا في كُلِّ مَكانٍ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرادَ بِالمسْلِمينَ شَرًّا وَسَعَى بَيْنَهُمْ بِفُرْقَةٍ وَفِتْنَةٍ وَشَرٍّ فاجْعَلْ شَرَّهُ في نَحْرِهِ وَرُدَّ ضُرَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ دائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيْهِ يا رَبَّ العالمينَ، نَدْرَأُ بِكَ في نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

المرفقات

1754539911_فن التغافل.docx

1754539919_فن التغافل.pdf

المشاهدات 1214 | التعليقات 0