«فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»

الخُطْبَةُ الْأُولَى

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [سورة آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [سورة النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [سورة الأحزاب: 70، 71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكُفْرَ وَالْجُحُودَ، فَإِنَّ كُفْرَ النِّعَمِ هَلَاكٌ لِلْأُمَمِ، وَتَبَدُّلٌ فِي الْأَحْوَالِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

امْتَنَّ اللَّهُ عَلَىٰ عِبَادِهِ بِنِعْمَتِهِ بِجُمْلَةٍ مِنَ النِّعَمِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الِانْتِفَاعِ مِنْهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَهَيَّأَ لَهُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَالمَرْكَبَ وَالمَسْكَنَ، وَوَقَاهُمْ شَرَّ مَا يَنْتَابُ النَّاسَ مِنْ كَوَارِثِ الجُوعِ أَوِ الحَرِّ الشَّدِيدِ.

قال تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [سورة النحل: 81].

أَي: تُسْلِمُونَ لِعَظَمَتِهِ، وَتَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَتَصْرِفُونَ النِّعَمَ فِي طَاعَةِ مُولِيهَا وَمُسْدِيهَا. 

وكَمَا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَىٰ عِبَادِهِ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَنَدَبَهُمْ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَقَدْ حَذَّرَ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الإِسْرَافِ فِيهَا، أَوِ التَّبْذِيرِ فِي الأَمْوَالِ.

 

فَالإِسْرَافُ: هُوَ تَجَاوُزُ الحَدِّ فِي بَذْلِ المَالِ فِي المَصَارِفِ المَشْرُوعَةِ وَالجَائِزَةِ، كَالمَأْكَلِ وَالمَشْرَبِ وَالمَلْبَسِ وَالمَسْكَنِ.

وَأَمَّا التَّبْذِيرُ: فَهُوَ بَذْلُ المَالِ فِي الأَوْجُهِ المُحَرَّمَةِ.

وَكُلٌ مِنَ الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِهَا وَحُلُولِ النَّقِمَةِ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ.

قَالَ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي أَوْجُهِ الحُقُوقِ المَشْرُوعَةِ:

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [سورة الإسراء: 26].

أَي: لَا تَضَعْ مَالَكَ فِي أَوْجُهِ الحَرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ بَعْدَهَا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [سورة الإسراء: 27].

أَي: كَافِرًا بَحَقِّ اللَّهِ، جَاحِدًا لِنِعَمِهِ.

فَأَيُّ مَالٍ يُبْذَلُ فِي الحَرَامِ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، عُدَّ ذَلِكَ مِنَ التَّبْذِيرِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهُ.

قالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ -: "إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ فِي التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ وَتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ". 

وَأَمَّا الإِسْرَافُ: فَهُوَ تَجَاوُزُ الحَدِّ، وَانْعِدَامُ الوَسَطِ، وَاخْتِلَالُ المِيزَانِ، وَصَاحِبُهُ مَذْمُومٌ عِندَ اللهِ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِلهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْعِقَابِ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [سورة غافر: 43].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ مَنهَجَ عِبَادِ الرَّحمنِ الصَّالِحِينَ فِي نَفَقَاتِهِمْ، أَنَّهُمْ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا؛ فَالوَسَطُ مَنهَجُهُمْ، وَالِاعْتِدَالُ طَرِيقَتُهُمْ.

فَإِنَّ الِاعْتِدَالَ فِي اسْتِعْمَالِ نِعْمَةِ اللهِ، أَنْ تَكُونَ وَسَطًا بَيْنَ الإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ، لَا يَشُوبُهَا كِبْرٌ وَلَا مَخِيلَةٌ.

فِي حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ ﷺ: «كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ» أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ شُعَيْبُ الأَرْنَؤُوطُ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

 

فَمَتَى مَا جَاوَزَ الإِنسَانُ حَدَّهُ، كَانَ مَكْرُوهًا لَا يُحِبُّهُ رَبُّهُ.

قَالَ تَعَالَى:

{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [سورة الأعراف: 31].

وَإِنَّهُ لَيُخْشَى عَلَى مَنِ اعْتَادَ الإِسْرَافَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا لِنِعْمَةِ اللهِ، جَاحِدًا لِحَقِّهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْعَمَ عَلَى الأُمَمِ السَّابِقَةِ بِسَائِرِ النِّعَمِ، وَأَهْلَكَ اللهُ المُسْرِفِينَ مِنْهُمْ.

وَمِنْ تِلْكَ الأُمَمِ: مَمْلَكَةُ سَبَأٍ؛ فَقَدْ كَانَ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ: جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، أَمَرَهُم - جَلَّ وَعَلَا - بِالِاسْتِمْتَاعِ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَشُكْرِ اللهِ عَلَيْهَا: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)} [سورة سبأ: 15].

فَأَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهَا، وَجَحَدُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَفُوا وَطَغَوْا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَصَارُوا لِلنَّاسِ أَحَادِيثَ، وَمَزَّقَهُمُ اللهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: "فَأَعْرَضُوا عَنِ الْمُنْعِمِ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ، وَبَطِرُوا النِّعْمَةَ وَمَلُّوهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ طَلَبُوا وَتَمَنَّوْا أَنْ تَتَبَاعَدَ أَسْفَارُهُمْ بَيْنَ تِلْكَ الْقُرَى، الَّتِي كَانَ السَّيْرُ فِيهَا مُتَيَسِّرًا، {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِنِعْمَتِهِ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَطْغَتْهُمْ، فَأَبَادَهَا عَلَيْهِمْ".

أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاحْذَرُوا كُفْرَ نِعْمَتِهِ بِالإِسْرَافِ وَالْمُبَاهَاةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ نِقْمَةَ اللهِ إِذَا حَلَّتْ عَمَّتْ، وَبَأْسَهُ لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ        أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ المُبَالَغَةَ وَالمُبَاهَاةَ فِي الحَفَلَاتِ وَالوَلَائِمِ، وَتَصْوِيرَ النِّعَمِ وَالبَهْرَجَةَ فِيهَا، هُوَ مِنَ الإِسْرَافِ وَالمَخِيلَةِ، وَصَاحِبُهَا عِندَ اللهِ مَذْمُومٌ؛ إِذْ ذَاكَ كُفْرٌ لِلنِّعْمَةِ، لَا شُكْرٌ، وَبَطَرٌ بِهَا وَجُحُودٌ.

أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْنَا بِتَوَفُّرِ المَأْكَلِ وَالمَشْرَبِ وَصُنُوفِ النِّعَمِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ آبَاؤُنَا وَأَجْدَادُنَا عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ، يَمُصُّ أَحَدُهُمُ التَّمْرَةَ يَوْمَهُ كُلَّهُ، لِيَقْبِضَ عَلَى طَرَفِ حَبْلِ العَيْشِ، آمِلًا أَنْ يَحْيَا فَلَا يَمُوتَ جُوعًا.

مَرَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ شَعَثِ الحَالِ وَسُوءِ المَآلِ، مَا لَا يُصَدَّقُ، لَوْلَا أَنْ تَنَاقَلَهُ الأَبْنَاءُ عَنْ آبَائِهِمْ، وَلَوْلَا أَنْ حَكَى بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ، عَمَّا لَحِقَهُمْ.

أَفَيُكْفَرُ بِنِعْمَةِ اللهِ، بَعْدَ أَنْ بَدَّلَ اللهُ الحَالَ؟! فَحَسُنَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، فَأَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ، وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ.

إِنَّ المُفَاخَرَةَ وَالمُبَاهَاةَ بِالوَلَائِمِ، نَذِيرُ شَرٍّ، وَنَاقُوسُ خَطَرٍ يُهَدِّدُ النَّاسَ؛ وَإِذَا مَا اسْتَمَرُّوا عَلَى تِلْكَ الحَالِ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ بِالكَرَمِ وَحُسْنِ الضِّيَافَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالطَّيِّبَاتِ، لَا بِالمُبَالَغَةِ وَالإِسْرَافِ وَالمُبَاهَاةِ.

وَإِنَّ مِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ شَرًّا وَسُوءَا: تَصْوِيرُهُ لِلنَّاسِ، وَعَرْضُهُ لَهُمْ، فَخْرًا وَخُيَلَاء؛ فَتَنْكَسِرُ قُلُوبٌ آلَمَتْهَا الدُّيُونُ، وَأَوْحَشَهَا الفَقْرُ.

فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي، يُرَائِي اللهُ بِهِ».

وَإِنَّ مِمَّا يُحَذَّرُ مِنْهُ - عِبَادَ اللهِ - مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي الإِسْرَافِ المَقِيتِ: قِلَّةُ التَّدْبِيرِ، وَسُوءُ التَّصَرُّفِ فِي الفَنَادِقِ أَوِ الوَلَائِمِ.

فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا وَقَفَ أَمَامَ أَصْنَافِ الطَّعَامِ - فِي بُوفِيهَاتِ الفَنَادِقِ، وَقَاعَاتِ الأَفْرَاحِ، وَغَيْرِهَا - مَلَأَ صَحْنَهُ مِنْ أَصْنَافِ الطَّعَامِ، مَا لَا يَأْكُلُ مِنْهُ إِلَّا ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ، فَيَقُومُ مِنْ طَعَامِهِ وَقَدْ تَرَكَ صَحْنَهُ مَلِيئًا، غَيْرَ صَالِحٍ لِلِاسْتِعْمَالِ مِنْ بَعْدِهِ.

وَهَذَا - وَاللهِ - شَرٌّ وَخَطَرٌ، وَلَا يَجُوزُ.

وَلِلأَسَفِ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الإِسْرَافِ قَدْ عَمَّتْ بِهِ البَلْوَى، فَلَا تَكَادُ تَجْلِسُ فِي الفَنَادِقِ أَوِ الوَلَائِمِ فِي قَاعَاتِ الأَفْرَاحِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا وَتَرَى مِنْ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَقْشَعِرُّ لَهُ الأَبْدَانُ، وَأَصْحَابُ تِلْكَ الأَفْعَالِ، قَدْ تَصَرَّفُوا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السَّفَهِ فِي المَالِ.

عَلَىٰ مَنْ ابْتُلِيَ بِمِثْلِ تِلْكَ الأَفْعَالِ أَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الفَنَادِقَ وَالقَاعَاتِ الكُبْرَىٰ لِلحَفَلَاتِ وَغَيْرِهَا قَدِ اسْتَعَدُّوا لِمَا يَتَبَقَّىٰ فِي أَوَانِيهِمْ مِمَّا لَمْ تَلْمَسْهُ أَيْدِي النَّاسِ، بِاسْتِعْمَالِهِ فِي وَجْهِهِ الصَّحِيحِ، إِمَّا مِنْ خِلَالِ إِتَاحَتِهِ لِلْعَامِلِينَ فِي تِلْكَ الأَمَاكِنِ وَلِأُسَرِهِمْ، أَوْ لِمَنْ خَلْفَهُمْ.

أَمَّا مَا يَبْقَىٰ فِي أَطْبَاقِ النَّاسِ فَهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ، وَصَاحِبُهُ مَسْؤُولٌ عَنْهُ أَمَامَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.

أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللهِ، وَرَبُّوا أَوْلَادَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ عَلَىٰ تَوْقِيرِهَا، وَحَذِّرُوهُمْ مِنَ الِاسْتِهْتَارِ بِهَا أَوِ التَّهَاوُنِ فِي الحِفَاظِ عَلَيْهَا، فَلَا يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا مَنْ حُرِمَ مِنْهَا، أَوْ عَاقَبَهُ اللهُ بِزَوَالِهَا.

فِي الوَلَائِمِ وَالحَفَلَاتِ وَالفَنَادِقِ، اِنْصَحُوا مَنْ حَوْلَكُمْ بِالحُسْنَىٰ، وَنَبِّهُوهُمْ إِلَىٰ أَنَّ الرُّشْدَ فِي حُسْنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ مَوْجُودٌ غَيْرُ زَائِلٍ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَا نَكُونَنَّ سَبَبًا فِي رَمْيِهِ، أَوْ إِضَاعَتِهِ، أَوْ حِرْمَانِ الآخَرِينَ مِنْهُ.

قَالَ تَعَالَى:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [سورة النحل:112].

  صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَوْلًا كَرِيمًا، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [سورة الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الْأَرْبِعة -أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ-وَعَنْ سَائِرِ الآلِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرَحَمَ الرَّاحِمَيْنَ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عِبَادَ اللَّهِ:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة النحل: 90]، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المشاهدات 109 | التعليقات 0