في مثل هذا اليوم خرجَ ﷺ إلى الحَجّ

محمد بن عبدالله التميمي
1446/11/24 - 2025/05/22 12:53PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمْنًا، فَرَضَ سبحانه الحجَّ على مَن استطاع إليه سبيلًا، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه وسولُه وخيرُ مَن حجَّ فلبَّى، وطاف وسعى، وقصد مِنَى وَرَوَّى، ووقَفَ بعرَفَةَ وبات بالمزدَلِفَةِ ولبَّى حتى رمى، ثم نحرَ فأهدى، وحلَقَ وطاف وظهرَ العيد بمكة صلى، ثم أقام وبات بمِنَى، حتى فرغ من حجه وقضى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهُم على الهَدْيَ واقتفَى، أما بعد:

فاتقوا اللهَ عباد الله حقَّ التقوى، فأصلها بحقيق التوحيد الذي هو نفيٌ وإثبات، ولأجلها شُرِعَت الطاعات، وبها يتفاوتُ المطيعون بالدرجات (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

عباد الله.. في مثل هذا اليومِ الخامسِ والعشرينَ مِنْ شهرِ ذِيْ القَعدَةِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ خرجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى الحَجّ، حَتَّى أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ».

حَتَّى إِذَا أَتَى الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وَ(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ.

وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَان جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِائَةً، فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا، إِلَّا النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ.

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ [الكُبْرَى] فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ.

وقد كان فيما قال عليه الصلاة والسلام في خطبته بِعَرَفَة: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ».

فنشهدُ انه بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانةَ ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ثبتنا الله على هديه الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله أحقُّ مَنْ حُمِدْ، وأكرَمُ مَنْ تَفَضَّلْ وأَرْحَمُ مَنْ قُصِدْ، فاعْبُدْهُ واقْصِِدُه ولا تَحِد، وأصلِّي وأُسلِّمُ على رسولِه محمدٍ سيدِ ولدِ آدم وَبِيَدِهِ لِوَاءُ الحَمْدِ عُقِد، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله ومَنْ لَهُ صَحِبْ، ومَن لَهُمْ بِإِحْسَانٍ تَبِعْ، أما بعد:

فإنكم عبادَ اللهِ تَسْتَقْبِلُونَ أيامَ عشرِ ذي الحِجَّةِ التي هي أفضلُ الأيامِ عندَ الله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» وفي رواياتٍ أُخَر: «أحَبّ» و«أعظم» و«أزكى» قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: «ولا الجِهادُ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِهِ ومالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ» فالعملُ الصالحُ في عشرِ ذي الحجة أفضلُ وأعظمُ وأحبُ من الجهادِ غير المتعيِّنِ بالمالِ كُلِّه دون النفس، أو الجهادِ بالنفس دون المال، وهذا واللهِ أيسر، فاللهَ اللهَ.. باغتنام الأيام التي عَظَّم العملَ الصالحَ فيهنَّ الله.

عباد الله.. وهؤلاء الأيام العشْر هن الأيام المعلومات اللاتي خصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الأمرَ بذكره فيهن، فقال تعالى ذكره: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾، وكذلك خصَّها رسول الله ﷺ كما في المسند من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» وفي رواية: «والتسبيح» هكذا ذِكْرٌ مُطْلَقٌ في جَمِيعِ الأَحوَال، وإِنَّما يكون الـمُقَيَّدُ مِن التَّكْبيرِ بعد صلاة الفجر يومِ عرفة إلى آخر أيام التشريق، كما جاء عن جماعة من الصحابة -رضوانُ الله عليهم-.

وإنَّ مِنْ صَالِحِ العَمَلِ: الصومُ ابتغاءَ وجه الله، ويَعظُم الأجر مع شدَّةِ الحَر، ولْتَجتَهِدْ عبدَ الله في سائر أنواع الطاعات، وأوَّلُه الصلواتُ المفروضات، وواجبُ البِرِّ والنفقات، واجتنابُ المحرَّمات، ثم التزوُّدُ مِن نوافلِ الصلوات، والذكرِ والتلاوات.

المرفقات

1747907588_في مثل هذا اليوم خرجَ ﷺ إلى الحَجّ.docx

1747907589_في مثل هذا اليوم خرجَ ﷺ إلى الحَجّ.pdf

المشاهدات 291 | التعليقات 0