قصة رضاع حليمة السعدية للرسول صلى الله عليه وسلم
أحمد بن علي الغامدي
أما بعد :فقد كانت العادة عند الحاضرين من العرب قديما أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر؛ وذلك حتى تقوى أجسامُهم، وتشتد أعصابُهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولذلك التمس عبدُ المطلب لحفيده رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء، فاسترضع له امرأة من بني سعد ابن بكر- وهي حليمة السعدية رضي الله عنها. والتي قالت في حكاية قصة الرضاع فيما نقله عنها محمد بن إسحاق المدني إمامُ أهل السير:إنها خَرَجَتْ مِنْ بني سعدٍ مَعَ زَوْجِهَا، وابنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ، في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قالَتْ: وذَلِكَ في سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، [ كانت سنةَ قَحْطٍ، وجَدْب لا خُضْرَة فيها لِقِلَّةِ المَطَر]، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانٍ لِي قَمْرَاءَ [تعني على حمارَة شديدةِ البياض ]، وكان مَعَنَا شَارِفٌ لنَا [والشارف :هي الناقة المُسِنَّة الهرمة] وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ [يعني ما يَقْطُرُ من الناقة الهرمة لبن أبدا ]، ومَا نَنَامُ لَيْلَنَا أجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ منَ الجُوعِ، ومَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، ومَا فِي شَارِفِنا ما يُغَذِّيهِ .ولَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الغَيْثَ، والفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أدَمْتُ بالرَّكْب [ يعني أنها أخَّرتْ الركب وأطالت عَلَيْهِم الْمسَافَة بسبب ضعف حمارها وهزاله ]حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الركب الذين معها في السفر .
حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتَأْبَاهُ، إِذَا قِيلَ لَهَا أَنَّهُ يَتِيمٌ، وذَلِكَ أنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو المَعْرُوف والمالَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، ومَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أمُّهُ وَجَدُّهُ؟ فكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ . فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلَاقَ، والعودة لديار بني سعد، قُلْتُ لِزوجي: وَاللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي، ولَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ اليَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ.
فقَالَ زوجها: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.
قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فأخَذْتُهُ، ومَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ.
قالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، قالت: فَلَمَّا وَضَعْتُهُ في حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ-صلى اللَّه عليه وسلم حتَّى رَوِيَ، وشَرِبَ مَعَهُ أخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، قالت: ثُمَّ نَامَا، ومَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ فَحَلَبَ مِنْهَا وشَرِبَ، وشَرِبْتُ مَعَهُ حتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، ثم قَالَتْ حليمة: فقال زوجي حِينَ أصْبَحْنَا: تَعْلَمِي واللَّهِ يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، فقُلْتُ واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا ورَكِبْتُ أتَانِي، وحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاللَّهِ لَقَطَعَتُ بِالرَّكْبِ.[ أي تقدّمَ أتانُها على الركب ، ولم تتمكن بقية الحمُر من اللحاق به].تقول حليمة :حتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ أَرْبِعِي عَلَيْنَا [أي :ارفُقِي وانتظرينا ]، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أتَانُكِ التِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟ فأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا.
ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، ومَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا[ لا نَبَات فيها ] ، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ [أي : ترجع في آخر النهار ] حِينَ قَدِمْنَا بالقرشي مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا، فَنَحْلِبُ ونَشْرَبُ ما شئنا من اللبن ، وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جياعا هالكة، وَمَا مِنَ الْحَاضِرِ أَحَدٌ يَحْلُبُ قَطْرَةً وَلَا يَجِدُهَا في ضَرْعٍ ، فَيَقُولُ القوم لِرِعَائِهِمْ: وَيْلَكُمْ أَلَا تَسْرَحُونَ حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي حَلِيمَةَ، فَيَسْرَحُونَ فِي الشِّعْبِ الَّذِي تَسْرَحُ فِيهِ . فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ آخر النهار جِيَاعًا هالكة. مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي لُبَّناً حُفَّلاً.[ أي مملوءة أضراعها لبنا ]
قَالَتْ حَلِيمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُرِينَا البَرَكَة والخير َونَتَعَرَّفُهَا،مدة بقائها صلى اللَّه عليه وسلم عندها.
عباد الله: أقول هذا القول .
الخطبة الثانية :
أما بعد: فإننا اليوم بحاجة شديدة للعودة إلى النبع الصافي، والقدوة الحسنة للعمل بالإسلام، ومن أعظم ما يعيننا على ذلك قراءةُ سيرةِ رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ،فإنها أعظمُ عون لنا لفهم الدين ؛ عقيدةً وعبادةً وخُلقا ، ولقد اعتنى سلفنا الصالح بعلمِ السيرة النبوية عناية فائقة ، وحثوا على تعلمها؛ قال إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بنِ أبي وقاص،رضي الله عنهم: " كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعُدُّهَا عَلَيْنَا، وَسَرَايَاهُ وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا
وقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ:"كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ".
قال ابن القيم رحمه الله :" وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلّقةً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسَه وأحبَّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وحزبه ، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
فما أحرانا –عباد الله- أن نغرس في قلوبنا وقلوب أهلينا تدارس هذه السيرة النبوية المباركة بالقراءة أو السماع من العلماء الموثوقين! وإن من الغبنِ والعجَب وفواتِ الخيرات والبركات أن يعتنيَ المسلم بقراءةِ كتبِ السير الذاتية لكفار وملحدين وربما لمجرمين أو تافهيين ويهمل قراءةَ السيرةِ النبوية للشافع المشفع صلى الله عليه وسلم
المرفقات
1764238326_خطبة جمعة (قِصَّة رضاع حَلِيمَة للنبي صلى الله عليه وسلم.docx