قصة موسى مع فرعون + عاشوراء
صالح عبد الرحمن
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَوَفَّقَ الْعِبَادَ لِلْهُدَى، فَمِنْهُم مَّنْ ضَلَّ، وَمِنْهُم مَّنْ اهْتَدَى، نَحمدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾
أيها المسلمون: قصةٌ تكادُ تكون أكثر قصة تكررت في القرآن, ورد ذكرها في القرآن 20 مرةً، وما ذاك إلا لكثرة عبرها, وعظيم أثرها.
قصة موسى مع فرعون تُمثّل قصة الطاغيةِ الجبار, والمصلحِ الناصح, تُمثل قُرب الفرج بعد الاشتدادِ, تُمثِّل حكمة الله في تصاريف القدر, إلى غير ذلك من الحكم.
وليس بنا اليومَ سردٌ لأحداثها إنما هي وقفةٌ مع آخر حلقاتها, ومراحلها.
حين دعا فرعونُ السحرةَ من المدائنِ كلها وحشرهم ليقفوا أمام موسى ومن معه.
اجتمع الناس من كل مكان, وحُشِروا ليشهدوا الصراع بين آيات موسى عليه السلام, وبين سِحر السحرة .
جاء السحرة من كل مكان وأعدوا العدة للتغلب على موسى, وأخذوا الوعود من فرعون: أن إذا غلبناه فمالنا؟ فوعدهم بالمال وبأن يكونوا لديه من المقربين.
ألقى السحرةُ أباطيلهم, وسحروا أعين الناس واسترهبوهم, وجاءوا بسحرٍ عظيم, فلحق موسى بعضُ خيفة, فهو بشرٌ, فجاءه التثبيت من ربه: (لا تخف إنك أنت الأعلى) أنت الأعلى بمتعقدك, الأعلى بما معك من آيات, الأعلى لأن معك الأعلى سبحانه, فلا تخف, وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر...
وحين رأى السحرة ما ألقاه موسى عليه السلام, عرفوا بما لديهم من علمٍ بالسحر أن هذا ليس بسحرٍ بل هو آيةٌ ومعجزة لا تكون إلا بمددٍ من إله, حينها لم يكن أمامهم إلا أن أذعنوا وقالوا: آمنا برب هارون وموسى.
آمن السحرة من قوم فرعون, وهم الذين سعى فرعونُ في إعدادهم ورعايتهم, وبهم يستعين على ملكه, وعلى القضاء على دعوة موسى ومن معه, ثم لما عاينوا الحقائق, خالط الإيمانُ بشاشة قلوبهم, فقالوا بكل اعتزاز ويقين: آمنا برب العالمين.
وأنى لطاغية كفرعون أن يترك هؤلاء القومَ وقد فارقوا دينه وعبدوا ربهم, أنى أن يتركهم أحراراً, فأراد أن يقتلهم ويصلّبهم في جذوع النخل ويجعلهم عبرة للمعتبرين.
ولكن سَحرةَ الأمسِ أصبحوا بنورِ الإيمان أعزةً موقنين, وقالوا بلسان الواثقين: اقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى.
أعد فرعون العدة بجنودٍ لا قِبَل لموسى ومن معه بها
وفي صبيحة اليوم العاشر من محرم، هرب موسى ومن معه ليلاً طلباً للسلامة وسعياً لإقامة دين الله في الأرض, ولكن فرعون اتبعهم حين أشرقت الشمس يريد قتلهم, وبينما هم كذلك على حالة الهرب من فرعون إذ بالبحر يردهم, وإذ بفرعون يدركهم.
فيحصل حينها مشهدٌ يحبس الأنفاس, ويقف له الشعر, مشهد الإيمان والتوكلِ والقوةِ الباطنة, أمام الطغيان والقوةِ الظاهرة.
المشهد: موسى وقومه بأعدادٍ يسيره, يهربون من فرعون وجنده الذين يبلغون عشرات الآلاف, بل قيل أكثر, يقف موسى ومن معه عند البحر, ويَقرُب فرعون منهم.
الصورة الظاهرة قال أصحاب موسى (يا موسى إنا لمدركون) لأن العدو وصلنا, والبحر يحجزنا.
فجاء جواب موسى بيقيناً كامل، وتوكلٍ تام، وإيمانٍ راسخ (كلا إن معي ربي سيهدين) وهو حين قالها يضع نصب عينه قول ربه له في أول النبوة (إنني معكما أسمع وأرى)
إذا أراد الله أمراً هيأ له سبباً, وهذا ما حصل, ففي لحظاتِ قُربِ جيش فرعون يأمرُ الله موسى أن يضرب البحر بعصاه, فتحصلُ المعجزة الباهرة, وإذ بالذي أجرى البحر بالماء يجعله يبساً, كل ذلك بضربة بعصا، البحار العظيمة مترامية الأمواج، تصير يابساً تجري الجموع فيها.
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).
فينجي الله موسى وقومه, ويغرق فرعون وجنده, ويبقيه الله ليكون عظة لكل جبار عنيد, وواقفٍ في وجه دعوة الرسل, ليعلم الناس أن الله غالب على أمره (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).
كانت تلكم الحادثة يا كرام في يوم عاشوراء, العاشر من محرم, إذ كانت صبيحةُ العاشر صبيحةَ الفرج والنصرة للمؤمنين المطاردين, الذي ظنّوا قبل هذا بساعات أنهم مدركون ومهلكون, ولكن نصر الله أقرب, فظل موسى يصوم هذا اليوم شكراً لله أن نجّاه, وأهلك فرعون وردّ أذاه.
وجاء من بعده محمد r إلى المدينة فوجد اليهود يصومونه، فصامه شكراً لله, فقال عليه السلام لليهود: نحن أحق بموسى منكم
صلى الله على محمد, وعلى موسى في العالمين, إن ربي قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ.....
أيها المباركون: يومُ عاشوراء تجلى قربُ الفرج, فالنصر جاء حين اشتدت الكربة, والصبحُ حلّ حين أعتمت الظلمة, فبينما كان قوم موسى في الليل مطاردين خائفين, وإذا بهم في الصباح أعزةً منتصرين, ويشاء ربك أن يؤخر النصر لعباده, ليعظم ابتلاؤهم ويكثر أجرهم, ويميز الطيب من الخبيث منهم.
وكم قانطٍ مسيء للظن بالله، بعيدٌ كل البعد من رحمة ربه، لضعف يأسه وقلة يقينه.
والموفقون هم من اطمأنوا لتقدير الله، ورضوا بقضاءه، وأيقنوا بقرب غِيره، ففعلوا الأسباب وأعدوا العدة لتغيّر الأحوال.
وفي قصة موسى يا كرام يتجلى قوة التوكل الذي ملأ قلب النبي موسى عليه السلام.
وكم نحتاج لأن نعلق قلوبنا به, فبيده سبحانه كل أمورنا, وما الخَلق وما الأسباب إلا خلقُه وبيده, فعلِّق القلب به لتقوى, ورضي الله عن ابن عباس إذا قال «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"
يا فضلاء: في قصة موسى يتجلى أن من شكر الله أن تتقرب له بالطاعات, فموسى عليه السلام صام اليوم الذي أنجاه الله فيه شكراً, وتبعه على ذلك محمد r, ونحن نفعل ذلك شكراً لربنا, واقتداءً بنبينا.
وقد جاء في فضل صيام يوم عاشوراء ما روي في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: إن أحتسب الله ان يكفر السنة التي قبله.
والأفضل صيام تاسوعا وعاشوراء لقول النبي لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، أو عاشوراء والحادي عشر مخالفةً لليهود ، أو إفراد عاشوراء بالصيام لوحده.
وبعد يا مسلمون: فكم في قصص القرآن من عبر, وقمن بنا أن نقرأها بقلب حاضر, وطلبٍ للهداية والعبرة, وليست القصصُ أحاديثَ تفترى, وإنما أخبارُ أممٍ قد مضت, ساقها ربك لنعرف من خلالها كيف نتعامل مع حاضرنا, فالأحداث تتكرر, والموفق من تلى بقلبٍ أو ألقى السمع وهو شهيد.