قلب الحقائق ظلم وإضلال للخلائق

قلب الحقائق ظلم وإضلال للخلائق

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، ناصر عباده المتقين ، ومعين أولياءه الصالحين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له قيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :- 

فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فهي وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ . { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .

ثم اعلموا رحمكم الله : أن الحق لا يتجاوز كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، وما كانوا عليه من الاعتقاد والقول والعمل ، وما خالف ذلك فضلال مبين ، وانحراف عن صراط أئمة الدين وعباد الله المتقين ، ولو زُخرِفَ بالأقوال ، أو زُيِّنَ بمعسول الكلام ، أو جُمِّلَ بمنطوق البيان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا } . فالبيان والكلام المزخرف يفعل في الناس فعل السحر ، فيقلب الحقائق في العيون والأذهان ، لا في الواقع والعيان ، فيُعمي الأبصار ويطمس على البصيرة ، حتى تُقْلَب له حقائق الأمور ، ويتصورها على خلاف ماهي عليه ، كفعل السحر في المسحور ، فيرى الحق باطلاً والباطل حقاً ، والإيمان كفراً ، والكفر إيماناً ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، والعدو صديقاً ناصحاً ، والصديق عدواً غاشَّا ومخادعاً ، والهزيمة نصراً ، والنصر هزيمة ، والعزة هوان ، والهوان عز ، والمصلحة مفسدة ، والمفسدة مصلحة ، والخير شرٌ ، والشر خير . ومن تمكن منه هذا الداء باء بالخسران ، واستغلق عليه فهم الأمور على حقيقتها وإدراكها وتصورها ، ثم الحكم عليها بحكم يخالف الصواب .

عباد الله : إن قلب الحقائق وتصويرها على خلاف ماهي عليه ، من طرائق أهل الزيغ والضلال ، وأهل النفاق والخداع ، الذين يخدعون بألسنتهم عباد الله ، ليُضِلُّوهم عن الصراط المستقيم ، وعن الطريق القويم . ولقد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي الأمر الواقع ، ما يدل على أن قلب الحقائق يؤثر  في النفوس ويحصل به الظلم والإضلال للخلائق . فأول من قلب الحقائق وزينها بزخرف القول ، هو عدو الله إبليس مع أبينا آدم عليه السلام . فبعد أن خلق الله آدم عليه السلام وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ونهاه عن أكل الشجرة ، أتاه إبليس يريد أن يخرجه من الجنة ، فقلب له الحقائق . قال الله تعالى : ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) ﴾ [سورة الأعراف] . فكان نتيجة ذلك ، الوقوع في معصية الله والخروج من الجنة .

ومما ورد في القرآن أيضاً ، امرأة العزيز قلبت الحقائق لِتُبرِئ نفسها وتلصق التُّهم بيوسف عليه السلام . قال الله تعالى : ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ . فهي التي أرادت بيوسف السوء ، فقلبت الحقائق لتوهم زوجها بأن يوسف هو الذي أراد السوء ، فكانت النتيجة أن أُدخِل يوسف السجن فلبث فيه بضع سنين .

ومما ورد في القرآن أيضاً ، قصة فرعون مع موسى عليه السلام ، عندما قلب الحقائق على قومه حتى يوهمهم أنه مشفق عليهم وأن عبادتهم له هي الحق والرشاد ، وأن موسى مجنون وأن ما يدعو إليه هو الباطل والفساد . قال الله تعالى عن فرعون : ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ . أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ . أما بعد :-

فقد ذكر الله تعالى المنافقين في القرآن الكريم وبين أن من منهجهم قلب الحقائق لإضلال الخلائق ، فهم من السفهاء المفسدين في الأرض  بالكفر والمعاصي ، والذي يكون سببًا لهلاك الحرث والنسل ، وكثرة المصائب والكوارث ، ولكنهم قلبوا الحقائق فوصفوا أنفسهم بالعقلاء المصلحين ، قال الله تعالى عنهم : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي : نعمل للإصلاح ، وهذا منهم قلبٌ للحقائق ، وجمع بين فعل الإفساد واعتقادِه إصلاحًا ، فردَّ الله عليهم مبيناً حقيقتهم : ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ﴾ . وقال تعالى عنهم : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ ﴾ . كما قلبوا الحقائق ليوهموا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن نواياهم حسنة لبنائهم مسجدهم مسجد الضرار ، فقالوا له : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العِلَّة والحاجة والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، فبين الله كذبهم وخبث نواياهم ،  قائلاً سبحانه وتعالى : ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ . فتبين بذلك حقيقة أمرهم ، وقلبهم للحقائق .

عباد الله : إن من أعظم الناس قلباً للحقائق والتمويه وتزيين الباطل ، الأعور الدجال ، فهو شر غائب يُنْتَظَر ، لعظيم خطره وشره ، وفتنته للناس ، وبسبب ما يُعطيه الله من الخوارق . فعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ } ، رواه مسلم  وفي رواية له : { أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ } . وقد ورد في الحديث بيان لكذبه والتحذير منه وقلبه للحقائق ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّه ﷺ : « ألَا أُحَدِّثُكُمْ حديْثًا عنِ الدَّجَّالِ ، ما حدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَبْلِي قَوْمَهُ ؟ إِنَّه أعورُ يَجيءُ معه بِمِثَالِ الجنةِ

والنارِ ، فالتي يقولُ إِنَّها الجنةُ هِيَ النارُ ، وإِنَّي أَنْذَرْتُكُمُ بِهِ كما أَنَذَرَ بِهِ نوحٌ قومَهُ } متفق عليه . فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الدجال ومن أشباه الدجال ، الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، أهل التمويه والإضلال ، وأهل البدع والضلال ، حتى لا يغتر بهم عباد الله ، ولا ينخدعوا بكلامهم وأفعالهم ، وإن زينوه وجمَّلوه ، فإن الحق يعلوه نور ، والباطل يغشاه ظلام .

عباد الله : إن الإعلام الحديث بأشكاله وأنواعه ، من مرئي ومسموع من بعض القنوات ، وبعض التواصل الاجتماعي ، والمجتهدين فيها ، لهم دور خطير في صناعة قلب الحقائق ، والتمويه على الناس ، وإضلالهم ، بل وإرهابهم ، فقد يصل بهم الأمر إلى تكفير مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، بمجرد أنه خالف أمراً يدعون الناس إليه ، من غير دليل ولا بيِّنة . فاحذروهم رحمكم الله ، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك اللهم في نحورهم . هذا وصلوا وسلموا عباد الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المهديين ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشِّرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لهداك ، واجعل عملهم في رضاك ، وأعنهم على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، عباد الله اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ( ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) .

( خطبة الجمعة 7/6/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1764162116_قلب الحقائق ظلم وإضلال للخلائق.docx

المشاهدات 221 | التعليقات 0