كانوا قليلا من الليل ما يهجعون 6-7-1447

أحمد بن ناصر الطيار
1447/07/05 - 2025/12/25 10:32AM

الحمدُ لِلَّهِ الذَّي منَّ على الصالحين بذِكره وطاعَتِه ، فَرَتَعوا في رياض الجنَّة لشُغْلِهم بمحبّته وعِبَادَتِه.

وَأشْهَدُ أنْ لا إِله إِلا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه, في ربوبيَّته وإلهيَّته وأسمائِهِ وصفاتِهِ ، وأَشْهَدُ أَنَّ سيَّدَنَا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه من مخلوقاتِه ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ, أهلِ دينِه ووُلاته, وسلَّم تسليمًا.

 

أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الصالحين يفرحون ويستبشرون بدخول فصل الشتاء؛ لِيطولَ قيامُهم بالليل صلاةً ودُعاءً وتضرّعا, يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مرحبًا بالشتاء؛ تنزِلُ فيه البركة، ويطولُ فيه الليلُ للقيام، ويقصُرُ فيه النهارُ للصيام".

وقال عمر -رضي الله عنه-: "الشتاءُ غنيمةُ العابِدين".

إنها غنيمةٌ بارِدةٌ حصلَت من غير قتالٍ، ولا تعبٍ ولا مشقَّةٍ، بل والله تجلبُ المتعةَ والسرور واللذة.

في ليل الشِّتاء الطويلِ, ينالُ الْمُؤمنُ حظَّه من النوم والراحَة، كما ينالُ حظَّه من القيام والعبادة.

يُقطِّعُ الصالِحون القانِتون ليلَهم بالذِّكر والصلاة، ويتلذَّذُ العابِدون القائِمون بطُول المُناجاة، يعرِضون حوائِجَهم لخالقهم ورازقِهم، ويُبدُون فقرَهم بين يدَي مولاهم

شتَّان بين من يتلذَّذُون بالتلاوة والذِّكر، والْمُناجاة والقيام، وبين من يَبيتُ ليله كلّه غارقًا في نومه.

 (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ).

هل هناك لذةٌ أعظم من الوقوف بين يدي الملك الكريم الرحيم؟ تقوم بين يديه والناس غارقون في نومهم, وأنت بينهم وحيدًا غريبًا مُتيقظًا, والله ينظر إلى حالك وهمّتك وصدقك, أفتراه يُخيّبك؟ أتظنّ بالكريم الذي له خزائن السماوات والأرض, أنْ يردّك صفر اليدين؟

لا والله, إنه سيُعطيَك ما سألت, بل وسيزيدك سروراً وأُنسًا وجمالاً, قيل للحسن البصريِّ رحمه الله : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ قال : لأنهم خلوا بالرحمن, فألبسهم مِن نوره نورا.

ما ألذّ حالهم في الأسحار, وهو يلهجون بالاستغفار: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

ما أكثر مدح الله لهم وثناءَه عليهم, ويكفي في ذلك قوله تعالى: {تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فما هي مُكافأتهم وجزاؤهم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

يكفيهم شرفًا وفخرًا, أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا لِيُعطيهم ما سألوا, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ". رواه مسلم

أليس من الخسارة أنْ يُفرط المؤمن بهذه العبادة العظيمة؟

وتعظم الخسارةُ ويشتدّ الذم, في حقّ مَنْ ترك قيام الليل بعد أنْ كان يقومُه ويُكابدُه, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْروٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ».

إن آخر الليل وقتٌ مُباركٌ, ولذا ينزل ربنا تبارك وتعالى فيه, ويُعطي فيه السائلين, ويُجيب فيه دعاءَ الدّاعين.

فهنيئًا لكم أيّها المتهجدون قرب الله تعالى منكم, وإجابته لدعواتكم.

 

تَرَكْتُمْ لذيذ الرقاد ذُخرًا لِيَوْمِ المعاد, تجشَّمْتُمْ القيام عن المنام ابتغاءَ الوقوف بين يدي الملك العلاّم.

نسأل الله تعالى أنْ يُعيننا على قيام الليل, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

*************

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..

أما بعد: معاشر المسلمين: إنّ لقيامَ الليل له فوائدَ كثيرة, منها:

أولاً: أنّه دليلٌ على البعد مِن الرياء والنفاق؛ لأنه لن يراه ويسمعه إلا علام الغيوب, قال قتادة رحمه الله: كان يقال : قلما ساهرٌ بالليل منافق.

ثانيًا: أنّ فيه لذةً وأُنسًا لا يعلمه إلا الله تعالى, قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله : والله ما رجل خَلَى بأهله عروساً, أقرَّ ما كانتْ نفسُه وآنسَ ما كان, بأشدَّ سروراً منهم بمناجاته إذا خلوا به.

وكان ثابت البناني رحمه الله يقوم الليل ويقول : ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل.

ثالثًا: أنّ قيام الليل يُهوِّن على العبد الوقوف يوم القيامة, قال الأوزاعي رحمه الله: من أطال قيام الليل، هوَّن الله عليه وقوفَ يوم القيامَة.

رابعًا: أنّه من أفضل العبادات, قيل للحسن رحمه الله: ما أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من الأعمال ؟ قال : ما أعلم شيئاً يتقرب به المتقربون إلى الله, أفضلَ من قيام العبد في جوف الليل إلى الصلاة.

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه : ركعةٌ بالليل خيرٌ من عشرين بالنهار.

خامسًا: أنْ يُراجع فيه المؤمنُ حفظه للقرآن في صلاته, فإذا قرأ فيه ما تيسر حسب هِمّتِه, رَسَخَ حفظُه وقَوِيَ فهمُه.

وقد ذكر تعالى الحكمةَ في أمره بقيام الليل فقال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي الصلاةَ فيه بعد النوم {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} أي: أقربَ إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلبُ واللسان، وتَقِلُّ الشواغل، ويَفْهَمُ ما يقول، ويَسْتَقيم له أمرُه، وهذا بخلاف النهار فإنه لا يحصل به هذا المقصود.

أمة الإسلام: هذا شيءٌ يسيرٌ من فوائد وبركات قيام الليل, والعاقل يبحث عمّا ينتفع به في دينِه ودُنياه, وقد ثبت أنّ النومَ المبكر, والاستيقاظَ قبل الفجر بساعةٍ, وقيامَه وإحياءَه صلاةً ودُعاءً وقراءةً للقرآن, يَنْتَفِعُ به المؤمنُ أيَّما انتفاعٍ في صحته وإيمانه ونشاطه, فيُصبح مسرور البال, طَيِّبّ النفس, يشعر بالنشاط والهمّةِ التي تقوده إلى معالِيْ الأمور, وتُحفّزُه على تنظيمِ واسْتغلالِ وقتِه.

نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا من السبّاقين للخيرات, الْمُدركين أعلى الدرجات, إنه على كلّ شيءٍ قدير.

عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.

 عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المشاهدات 155 | التعليقات 0