كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ

عبدالرحمن اللهيبي
1447/01/09 - 2025/07/04 03:12AM
من المنقول بتصرف
 
 
 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ مُرُورِ الْأَيَّامِ عِظَاتٍ وَعِبَرًا، وَمِمَّا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ زَادًا يكون لكم عند الله نجاة وذُخْرًا.. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

أَيُّهَا المسلمون: في اليوم العاشر من شهر الله المحرم غيَّر الله فيه حال أمة مستضعفة من الناس من الذل إلى العز ، ومن الاستعباد إلى التمكين ، ومن البلاء إلى العافية ، ألا إنه اليومُ الذي نجى الله فيه موسى وقومه ، وأهلكَ فيه فرعونَ وجنده ، فرعونَ الذي طغى وتجبر ، فأذاقَ أولئك المستضعفين من قوم موسى ألواناً من العذابِ وصنوفاً من الاضطهاد، حتى بلغَ به العدوان منتهاه، ووصلَ به الظلمُ مداه إلى أن يقتل جميع الأطفال الأبرياء، يفعلُ ذلك خوفاً من الغلامِ المنتظر، الذي سيكونُ على يديه تقويضُ ملكه، وإسقاطُ عرشه، كما أبلغه بذلك كهنتُه.

وبينما هو كذلك يقتل أبناءهم ويستحي نسائهم، إذ به وملئِه يشعرونَ بتناقصِ الرجال الذين سُخروا لقضاءِ حوائِجِهم، وخدمةِ مصالحهم، فاتخذ قراراً بأن يقتلَ الأطفال الذكور عاماً دون عام ، وذلك من أجلِ الإبقاءِ على بعضهم، وعدم قطعِ دابرهم.     

وبينما هو يخطط ويمكر ويكيد لهذه الأمة المستضعفة ظنا منه أن التدبير تدبيره ، وأن مقادير الخلق بيده، يتصرف فيهم كما يشاء ، فالطاغية فرعون يريد ولكن إله الكون يفعل ما يريد ، فقال الله : (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ))

لقد أراد الله أن يجعلَ هؤلاء المستضعفين أئمةً بعد أن كانوا عبيدا ، وسادة بعد أن كانوا رقيقا ، يريدُ سبحانه أن يجعل المغلوب غالبا ، والمقهور قاهراً ، والذليلَ عزيزا .. والله يفعل ما يريد "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ"

ثم قضى الله سبحانه أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي يُقتل فيها الأطفال! فيا لله العجب في تصرفه وتدبيره ، وفي ألطافه وتقديره ، ألم يكن الله قادرا على أن يقضي بأن يولد موسى في السنة التي لا يقتل فيها الأطفال؟ بلى وهو الحكيم الخبير ، ولكن ليعلم فرعون وملؤه أنهم أمام قدرة الله عاجزون ، فولد موسى والقتَلة من حوله يتربصون به ، وأمهُ خائفة عليه وحائرة به ، تنتظر متى يصل إليها جنود فرعون ليقتلوه ، وهي عاجزة عن حمايتِه، عاجزةٌ حتى عن إخفائِه، والله سبحانه يدبر الأمر كله من فوق عرشه، فقال سبحانه: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)).

سبحان الله! كيف يمكنُ لقلبِ أمٍّ يتفطرُ خوفاً وإشفاقاً على فلذةِ كبدِها، أن تلقيَه في البحر! نعم هذا أمر الله وهذا هو تدبيرُه، ألقيه في اليم : (( وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي )) فإن رعايته ليست موكولة إليك، فهو في رعايةٍ لا أمن إلا في جوارها، فإن الذي جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً، سيجعل البحر إذا شاء لموسى ملجأً ومناماً

ثم ما الذي جرى لموسى بعد أن ألقته أمه في اليم؟ ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ)) ، فإذا بالطفل الذي يقتلون الأطفال لأجله، ذلك الطفلِ الذي يكون على يديهِ زوالُ ملكِهم ونهايةُ سلطانِهم، يأتى إليهم بلا بحثٍ ولا عناء، نعم، هكذا قضى بحكمته أن يأتيَ إليهم الطفل الذي يبحثون عنه ولكن ليس ليقتلوه ، وإنما يأتي إليهم (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً). ليكون هذا الطفل الصغير الضعيف عدواً يتحداهم، وحزناً يُدخِل الهم على قلوبهم..

هذا لنعلم أن التدبير ليس لفرعون وإنما لله الواحد القهار

 (( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) هكذا أنجاه الله بأضعف الأشياء .. أنجاه بحنانٍ وعطف من قلب امرأة صالحة لهذا الطفل ، وهكذا الفرج يأتي للعبد من أمور لا يتوقعها ، فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب ، ثم يقضي الله أن يعود الطفلُ الغائبُ إلى أمه لترضعه كما وعد سبحانه حين قال: ( إنا رادوه إليك ) ، فيعود إلى أمه معافىً في بدنه، مرموقاً في مكانته، والأطفال يُذبحون من حولـه، بينما فرعون وجنوده مسخرون لحمايته ، فما أعجب الله في أقدار وألطافه!  (( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )).

ثم أصبح موسى عليه السلام بعد ذلك شابا جلدا قويا متألما لما يجري لبني قومه من القتل والإذلال فرأى موسى في ليلة من الليالي رجلا من قومه يستنجد به على رجل يعتدي عليه من آل فرعون ، فوكزه موسى فقتله.. فغضب عليه الفراعنة ، وفر موسى إلى أرض مدين، ثم عاد موسى بعد عشرِ سنين إلى أرضِ مصر ، ولكن عاد رسولاً مبلِغاً، ونبياً مكلَّما ، كما وعد الله أمه من قبل ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) ، فما كان جواب فرعون لدعوة موسى له إلا أن قال: (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) فيالها من كلمة فاجرة كافرة، تكاد تخر لها الجبال هدا، ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ )) ، هكذا يُقذف ذلك الدجال المتأله الذي لم يعرف قدر نفسه ، فغره ملكه وسلطان هكذا يُقذف في اليم كما تقذف الحصاة الصغيرة

وذلك حين أمر الله موسى أن يسري بقومه إلى جهة البحر ، فوقف موسى وقومُه على شاطئ البحر، وفرعون وجنده مقبلون عليهم، فالبحر أمامهم وفرعون من ورائهم، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ )

فتأمل –يا رعاك الله- عظيم قدرة الله -جل في علاه-: البحر العظيم السيال يجتمع بعضه على بعض ثم يجمد فيكون كالجبل العظيم، ثم يفتح لموسى وقومِه طريقا يابسا كأنه لم يكن به ماء من قبل ، فيا عجبا! كيف لبحر أن يكون هكذا، لكنه الله إذا قضى وقدر ..

فلما وصل فرعون وجنوده إلى البحر وخرج موسى ومن معه إلى الطرف الآخر.. أراد موسى -عليه السلام- أن يضرب بعصاه البحر؛ ليعود البحر كما كان قبل أن يتمكن فرعون من الدخول ، إلا أن التدبير هنا ليس لموسى .. وإنما لله فقال الله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى))
فتأملوا يا مسلمون في عجيب قدرة الله ، إنه اليمُّ ذاته الذي أُلقى فيه موسى طفلا رضعياً، فكان له ملجأً ومناماً ، وهو اليم ذاته يُنبذ فيه فرعونُ وجنوده، فيكون عليهم عذابا وهلاكا .. ذلك لنعلم يقينا أن الأمنُ لا يكون إلا في جنابِ الله ، والمخاوف والمهالك إنما تكون في الإعراض عن الله ..

 

أقول قولي هذا ...

 

أما بعد : أيها المسلمون

وهكذا طويتُ صفحةُ ذلك الطاغيةِ العنيد، في اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، وأصبح أثراً بعد عين، وعبرةً تتناقلها الأمم والأجيالُ

في رسالة قرآنية واضحةُ المعالم، بينة الألفاظ ، تؤكد لنا جميعا: أن التدبير كله لله، وأن الخلق كلَّهم تحت قهر الله وتصريفه

ورسالة قرآنية أخرى وهي: أن الصراع بين الحق والباطل مهما امتد أجله، فإن العاقبة للمتقين..

وأن الباطل مهما انتفخ وانتفش وتعاظم فإن له يوما يدمغه فيه الحق فإذا هو زاهق

ورسالة للمستضعفين أيضا بأنه مهما طال بلاؤهم واشتد كربهم فإن لهم يوما سيُرفع فيه بلاءهم ، وتُشكف فيه ضراءهم

وهي رسالة قرآنية للمؤمنين جميعا بأن للطُّغَاة المُجْرِمِينَ في زماننا هذا من اليهود والصفويين الَّذِينَ أَنْزَلُوا بِالمُسْلِمِينَ الْخُطُوبَ، وأراقوا دماءهم ، وَاسْتَبَاحُوا ْحُرُمَاتِهم .. بأن لهم يومٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّـهِ تَعَالَى سيكْتَبُ الله فِيه ذُلّهمْ، وَتَهْوِي فِيه عُرُوشُهُمْ..

ألا فاتقوا الله عِبَادَ اللَّـهِ- واعلموا أن هذه الملحمةَ الكبرى، وهذا النصرَ المبين لأولئك القومِ المستضعفين ، والغرقَ والهلاكَ لأولئك الفراعنة المتجبرين، وقع كلُه في العاشرِ من شهرِ الِله المحرم .. وعليه فيومُ عاشوراء يومٌ عظيم من أيام الله..

وكانت اليهودُ تصومُ هذا اليوم ويقولون : إن موسى عليه السلام صامه لله شكراً ، فصامهُ الرسولُ ﷺ وقال : « نحن أحق بموسى منكم » ، ثم أمرَ النبي ﷺ بمخالفةِ اليهودِ ، وصيامِ التاسعِ مع العاشر

ومن صام اليوم العاشر لوحده فلا بأس ولا كراهة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ولو وافق يوم السبت

فقدِّروا يا مسلمون هذا اليوم ، وصوموه قربةً لله وشكراً، واحتساباً للمغفرةِ والمثوبةٍ ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : « صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية » 

ثم أكثروا يا عباد الله من الصيام في هذا الشهر المحرم فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))؛ رواه مسلم.

اللَّهُمَّ أنج المستضعفين من المسلمين، وَاهْزِمِ اليَهُودَ وَالصَّفَوِيِّينَ والحوثيين والبوذيين ، وَأَوْرِثْ المُسْتَضْعَفِينَ أرضهم وديارهم وأموالهم يَا رَبَّ العَالَمِينَ،

اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقض ديوننا ، واشف مرضانا ، وعاف مبتلانا ، وفرج همومنا ، ونفس كروبنا.. وأصلح ولاة أمورنا ..

المشاهدات 673 | التعليقات 0