لا تُنزع الرحمة إلا من شقي

عبدالرحمن اللهيبي
1447/02/14 - 2025/08/08 00:01AM

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، وهم السابقون ونحن اللاحقون، أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ .

أيها المسلمون، المكلومون من الناس من فقير ومريض، وجائع ويتيم، وعاجز وكبير، ومحتاج وكسير، في حاجة إلى قلب رحيم، ورعايةٍ حانية، هم بحاجة إلى رحمة تغشاهم، وحِلْمٍ لا يضيق بجهلهم ، نعم وربي إنهم في حاجة إلى قلب عطوف كبير، يتجاوز عن زللهم، ويتسامح عن أخطائهم ، هم بحاجة إلى قلب طيب رحيم يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى شكرهم وجميلهم

يا مسلمون: إن قسوة القلب وتبلُّد الحس لما يجري على المكلومين لتهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطّ، فالإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير قلب رقيق أشبه بالحجر الصلب.

الرحمة ـ يا عباد الله ـ هي من أعظم ما يمنحه الله للعبد ، فالرحمة تجعل المرءَ يرقّ لآلام الخلق والمساكين، ويئن للمصابين والمكلومين، ولا يمنعه من رحمتهم ومواساتهم، ما يكون منهم من أخطاء وتجاوزات ، أو ما يصدر منهم من جحود ونكران ، أو ما يكون منهم من تسبب لما هم فيه من المصائب والنكبات ، فالمسلمُ أخو المسلمِ لا يخذله ولا يُسلِمُه ، المسلم صاحب القلب الرحيم يتلمّس أعذار إخوانه، ويصفح عن زلاتهم، ويتغافل عن أخطائهم،

وإن عاتبهم فبلطف يرجوا به هدايتهم ، ويظل وفيا لهم، عطوفا عليهم ، رحيما بهم ، محسنا إليهم

يقول الله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة)

ها أنت يا عبد الله مع ربك عاصٍ وجحود  ، ومعرض وكنود ، وربك بك مع جحودك وعصيانك غفور حليم ، ودود رحيم ، يظل يطعمك ويسقيك ، ويحسن إليك على الدوام ويعطيك .. فهل ترجوا أن الله يعاملك بمثل ما تعامله به من الصدود والإعراض

فمن أراد أن يكون الله به غفورا رحيما فليكن للناس كذلك ، ومن أراد أن يكون الله به محسنا وكريما فليكن للناس كذلك ، فكما تكون للناس يكن الله لك .. قال ﷺ ((من لا يَرحم لا يُرحم)).

أيها المسلمون، الرحمة تكون في قلوب المؤمنين بحسب إيمانهم وهُداهم، فهي من دلائل كمال الإيمان، كما أن قسوة القلب من دلائل نقصه، فصاحب الإيمان الصادق يلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرّ مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، قال ﷺ: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا)) فمتى وجد العبد من قلبه رحمة للضعيف والمسكين فليعلم أنها من الإيمان، ومن كان قاسي القلب ولا يرحم الخلق فليراجع إيمانه .. وليس المقصود يا عبد الله قَصْرُ الرحمة على من تعرف من قريب حبيب أو صديق عزيز، ولكنها رحمة عامة تسع المسلمين كلَّهم، قال ﷺ:  ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) ، وقال ﷺ : ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء

فالله يكون بك رحيما كريما ، منعما حليما إذا كنت ذا قلب رحيم، يرقّ للضعيف والمسكين ، ويألم للمكلوم والحزين، ويقوم على الأرملة واليتيم ، ويشفق على العاصين ، ويدعو لإخوانه المستضعفين ، ويعين الملهوف والمحتاجين ، ويكره الظلمة والمعتدين ، ويحسن إلى الخدم والعمال ، ويأكل معهم في موائدهم ولا يتعالى عليهم ولا يبخسهم أجورهم

أيها المسلمون، وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة والإحسان ، والعطف والإكرام ، هما الوالدان، وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا .

ثم من بعد ذلك البنات والأبناء فلذات الأكباد، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: ((اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما)). ومن أعظم الرحمة الرحمة بالبنات قال صلى الله عليه وسلم : " من ولدت له ابنة ، فلم يئدها ، ولم يهنها ، ولم يؤثر ولده عليها ـ يعني الذكور ـ أدخله الله عز وجل بها الجنة " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من كان له ثلاث بنات ، فصبر عليهن ، وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته ، كن له حجاباً من النار يوم القيامة "

والمشاهد اليوم أن بعض الآباء أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والرحمة، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلاظة، قبَّل رسول الله ﷺ الحسن والحسين رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله ﷺ وقال: ((أَوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك).

ومن أعظم الحقوق بعد الوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، فالرَحِمُ مشتقة في أصلها من الرحمة ، قال ﷺ: ((الرَّحِمُ شِجنةٌ من الرحمنِ ، تقول: يا رب، إني قُطعت، فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟!)) ، فليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه وأرحامه، أو يقطع علائقهم لا يسدي لهم عوناً، فلا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف ولا يعينهم بمال.

فأي رحمة في قلب ذلك الرجل الذي يتقلب في ألوان الثراء وأخيه أو أخته في حاجة ومساسة لا يعلمها إلا الله . قال ﷺ : ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي))

أقول قولي هذا، وأستغفر الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أيها المسلمون، والرحمة في الإسلام لا تقتصر على الإنسان فحسب بل تتعداه لتصل إلى الحيوان ، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيّ سقت كلباً فغفر الله لها ، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فكيف بالرحمة بالبشر الذين حلت بهم المصائب والرزايا ، وإذا كانت القسوة بحبس هرة أوجب النار، فكيف بالقسوة في إيذاء البشر ؟!

فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن القلب يتبلّد مع اللهو الطويل ، ويقسو عند المبالغة في تحصيل اللذائذ ، والاشتغال بتتبع مباهج الحياة وزخرفها، والتفنن في الاسترسال في الترف ، والإغراق في الاستمتاع بالشهوات ، ثم لا تجد ذلك المغرقَ في الترف يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس ، ولا حزن محزون، جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحبّ أن يلينَ قلبك؟! قال نعم قال  فارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك))

عباد الله إن لكم إخوانا في العقيد والدين نزلت بهم البلاء واللأواء في غزة يقاسون أنواع البلايا والرزايا من القتل والتشريد والحصار والجوع القاتل

يصارعون عدوا مجرما لا يرقب فيهم إلا وذمة ، ولا يعرف إلا لغة القصف والإبادة والتدمير ، ومنافذهم محاصرة ، وما بقي من أطفالهم فقد افتقد الدار والأهل والخبز والحليب ، ونفد عن جرحاهم علاج الطبيب ، والعالم ينظر ولا مجيب .

وإن مقتضى الرحمة بهم يستلزم الدعاء والنصرة بقدر الإستطاعة

فإن بِأَيدِينَا سِلاحُ الدُّعَاءِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي وَعَدَنَا بِالإِجَابَةِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم

قال عليه الصلاة والسلام ((يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ)).

وأبشروا وأمّلوا، ((فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون)) وكونوا على يقين بهلاك الظلمة والمعتدين فإن الله يملي للظالم ليزداد في بغيه ويشتد في عدوانه ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))

اللَّهُمَّ إِنَّ بِإِخْوانِنا الْمَنْكُوبِينَ فِي غَزَّةَ مِنَ البَلاَءِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْتَ، وَإِنَّ بِنا مِنَ الوَهَنِ والجوع مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ،

إِلَهَنا إِلَى مَنْ نَشْتَكِي وَأَنْتَ الكَرِيمُ القَادِر، وبمن نَسْتَنْصِرُ وَأَنْتَ المَوْلَى النَّاصِر، وبِمَنْ نَسْتَغِيثُ وَأَنْتَ المَوْلَى القَاهِر، اللَّهُمَّ يا مَنْ بِيَدِهِ مَفاتِيحُ الفَرَجِ فَرِّجْ عَنْ إِخْوانِنا وَاكْشِفْ ما بِهِمْ مِنْ غٌمَّةٍ. وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف

اللَّهُمَّ يا عَزِيزُ يا جَبَّارُ يا قَاهِرُ يا قَادِرُ يا مُهَيْمِنُ يا مَنْ لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماءِ، أَنْزِلْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ عَلَى اليَهُودِ الصَّهَايِنَةِ وأعوانهم .

 

المشاهدات 613 | التعليقات 0