لذة المناجاة

الخطبة الأولى : لذَّةُ المناجاةِ

الحمدُ للـهِ عالمِ السرِّ وأخفى، سامعِ الجهرِ والنَّجوى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللـهُ ذو الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه ذويِ اليُمنِ والنُّهى ، وسلِّم تسليما كثيراً . أما بعدُ: فأوصيكم... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

عن أنسٍ t قال: قال النبيُّe إنَّ الـمُؤْمِنَ إذَا كانَ في الصَّلَاةِ، فإنَّما يُنَاجِي رَبَّهُ... خ.

أيها المؤمنون: مناجاةُ العبدِ ربَّه أرفعُ درجاتِ العبوديةِ، وأجلُّها عندِ اللـهِ قدْرًا؛ حين يتقرَّبُ العبدُ إليه بأحبِّ شيءٍ إليه؛ من تضرُّعٍ في دعائِه، أو تغنٍّ بكتابِه، أو لَهَجٍ بذكْرِه؛ تسبيحًا، وحمدًا، وتهليلًا، وتكبيرًا.

المناجاةُ حديثُ روحٍ لربِّها؛ يَفيضُ بها القلبُ قبلَ اللسانِ. وهيَ سرٌّ خفيٌّ بين العبدِ وربِّه؛ يُخاطِبُ فيها العبدُ الفقيرُ مولاه القديرَ بأحبِّ الخِطابِ، واللـهُ قريبٌ منه؛ يسمعُ سرَّهُ، ويرى مكانَه، ويعلمُ حالَه.

 

 ومن جليلِ رحمتِه أنْ جعلَ شرفَ مناجاتِه متاحًا لكلِّ طالبٍ متى شاءَ؛ لا يَحولُ بينَه وبينَ ربِّه أحدٌ ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )

 وتلك المناجاةُ أبلغُ حالٍ للعبدِ يراه اللـهُ عليه، ومقامُها أخصُّ مقامِ القُرْبِ منه -جلَّ وعلا- كما قال تعالى عن نبيِّه موسى عليه السلامُ: ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) أي: مناجياً .

ومناجاةُ العبدِ ربَّه من أوجبِ سُبلِ رضاه، كما عَجِلَ إليها موسى -عليه السلامُ- حين سألَه اللـهُ فقال:

( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ). قال ابنُ رجبٍ:" فدلَّ على أنَّ المسارعةَ إلى مناجاةِ اللـهِ تُوجِبُ رضاه تعالى ".

ومناجاةُ العبدِ ربَّه من أعظمِ أسبابِ الأُنسِ والرَّاحةِ، قال بعضُ السَّلفِ: "إذا صحَّتِ المناجاةُ بالقلوبِ استراحتِ الجوارحُ ".

 وتلك المناجاةُ مِعراجٌ موصِلٌ لمقامِ الإحسانِ، وهو أرفعُ مقاماتِ الدِّينِ، فقد عرَّفَ النبيُّ e الإحسانَ بقولِه: " أَنْ ‌تَعْبُدَ ‌اللَّـهَ ‌كَأَنَّكَ ‌تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ " م.

قال ابنُ القيِّمِ: " فإذا بلغَ في مَقامِ الإحسانِ بحيثُ يكونُ كأنَّه يَرى اللـهَ -سبحانَه- فهكذا مخاطبتُه ومناجاتُه له ".

وتلك المناجاةُ تُكسِبُ القلبَ صفاءً تُورثُه حلاوةَ الإيمانِ ، بلْ إنَّ تلك المناجاةِ مَنْجَمُ خيرٍ مُعجَّلٌ لا تَنقطعُ بركتُه، قال بعضُ السلفِ:" مَن أرادَ تعجيلَ النِّعمِ؛ فلْيُكثِرْ من مناجاةِ الخلوةِ".

عبادَ اللـهِ: الصلاةُ أعظمُ مواطنِ المناجاةِ بين العبدِ وربِّه؛ لِمَا يَجتمعُ فيها من أصولِ المناجاةِ؛ ذِكرًا، ودعاءً، وتلاوةً للقرآنِ،

 قالَ e:"قال اللـهُ تعالى: قَسَمتُ الصلاةَ بيني وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قالَ العبدُ: الحمدُ للـهِ ربِّ العالمينَ، قَالَ اللَّـهُ -تَعَالَى-: ‌حَمِدَنِي ‌عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرحمنِ الرحيمِ، قَالَ اللَّـهُ -تَعَالَى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قال: مالكِ يومِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي (وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي)، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضالين،

قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "م. بل إنَّ هذه المناجاةَ هي مقصودُ الصلاةِ وروحُها، قال e : إنَّ أحدَكم إذا قام يُصلِّي إنما يُناجي ربَّه ، فلْينظرْ كيف يُناجيه ؟ الحاكم . والمرادُ: أنَّه يَنبغي التزامُ الأدبِ في هذِه الحالِ؛ بأنْ يَقِفَ المُصلِّي مُستويًا، ويُطرِقَ رأسَه ويُعظِّمَ ربَّه، ويتَأَمَّلَ فيما يُناجيه من القَولِ، ويَتواطَأُه قلبُه ولِسانُه في فَهْمِ ما يُخاطِبُ به ربَّه عزَّ وجلَّ، فإذا كان حاضِرَ القلْبِ فلْيَزدَدْ تدبُّرًا وإقبالًا وحُضورَ قلبٍ، وإذا كان غافلًا لاهيًا، فلْيُقبِلْ بقلْبِه على مولاه.

أيها المؤمنون: لقراءةِ القرآنِ لذَّةٌ وجمالٌ، وسُرورٌ وجلالٌ، كلامُ اللـهِ يُتلَى على الألسُنِ، ويَطرُقُ الآذانَ، فتخشعُ النفوسُ، وتلينُ القلوبُ، وتسكُنُ الجوارِحُ؛ خشيةً وخشوعًا، حبًّا وحبورًا. ولا شيءَ عندَ المُحبِّينَ أحلى من كلامِ محبوبِهم؛ فهو لذَّةُ قلوبِهم، وغايةُ مطلوبِهم (إذا تُتلى عليهم ءآياتُ الرحمنِ خرُّوا سجداً وبُكياً )

واللذَّةُ في الذكرِ - عبادَ اللـهِ - رَوحٌ وريحانٌ، ولهذا سُمِّيَت مجالِسُ الذكرِ برياضِ الجنَّةِ، وما تلذَّذَ المُتلذِّذون بمثلِ ذكرِ اللـهِ  عزَّ وجلَّ .

 فليس شيءٌ من الأعمالِ أخفَّ مؤونةً، ولا أعظمَ لذَّةً، ولا أكثرَ فرحةً وابتِهاجًا للقلبِ من الذكرِ (ألا بذكرِ اللـهِ تطمنُ القلوبُ )

وفي قيام الليلِ لذَّةٌ يجِدُ طعمَها رُهبانُ الليلِ ويصِفونَ حلاوتَها(كانوا قليلاً من الليلِ ما يهجعونَ وبالأسحارِ هم يستغفرون).

قال أحدُ السلفِ: " ليس في الدنيا وقتٌ يُشبهُ نعيمَ أهلِ الجنَّةِ، إلا ما يجدُه أهلُ التَّمَلُّقِ في قلوبِهم بالليلِ من حلاوةِ المناجاةِ ".

 

عباد الله: اللذَّةُ الدائمةُ المُستقرَّةُ التي لا يشُوبُها كدَرٌ، ولا يعقُبُها ألمٌ، ولا يُنقِصُها همٌّ ولا غمٌّ: لذَّةُ الدارِ الآخرةِ ونعيمُها، فهو أفضلُ نعيمٍ وأجلُّه  (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

واللذَّةُ الكبرى والنعيمُ المُقيمُ: لذَّةُ النظرِ إلى وجهِ الكريمِ - تبارك وتعالى -، ولهذا كان دُعاءُ النبيِّ e: «وأسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرَّاءَ مُضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضلَّةٍ».

 

وعنه e: إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّـهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ.م. 

جعلنا اللـهُ وإياكم منهم بفضله وكرمه . بارك الله ...

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ...أما بعدُ...فيأيها المؤمنون:

سبيلُ الوصولِ إلى بلوغِ لذَّةِ المناجاةِ دوامُ الإلحاحِ على اللـهِ بطلبِها، ومجاهدةُ النفسِ للظَّفرِ بها، والإتيانُ بآدابِها؛ من المبادرةِ إليها، وحضورِ القلبِ فيها، واستشعارِ قُرْبِ اللـهِ ومخاطبتِه، وخفضِ الصوتِ في مناجاتِه، وتقديمِ الصدقةِ بين يديها، والاستعدادِ لها بالتطهرِ والتجملِ بأحسنِ الحالِ واللباسِ، والحرصِ على الخلوةِ باللـهِ في عبادةِ السِّرِّ، والحذرِ من إفشاءِ سرِّها للناسِ، والإعجابِ بها.

هذا وإنَّ من خفيِّ كرمِ اللـهِ لعبدِه، وإرادتِه الخيرَ به أنْ يُقدِّرَ عليه من البلاءِ والحاجةِ ما يَجعلُه سبيلًا لبلوغِ نُزُلِ المناجاةِ وذوقِ حلاوتِها. قال شيخُ الإسلامِ:"لكنَّ العبدَ قد تنزِلُ به النازلةُ، فيكونُ مقصودُه طلبَ حاجتِه، وتفريجَ كرباتِه، فيسعى في ذلك بالسؤالِ والتضرعِ -وإنْ كان ذلك من العبادةِ والطاعةِ-، ثمَّ يكونُ في أولِ الأمرِ قصدُه حصولَ ذلك المطلوبِ من الرزقِ والنصرِ والعافيةِ مطلقًا، ثم الدعاءُ والتضرعُ يَفْتَحُ له من أبوابِ الإيمانِ باللـهِ -عزَّ وجلَّ-، ومعرفتِه ومحبتِه،

والتَّنعمِ بذكرِه ودعائه، ما يكونُ هو أحبَّ إليه وأعظمَ قدْرًا عنده من تلك الحاجةِ التي هَمَّتْهُ. وهذا من رحمةِ اللـهِ بعبادِه؛ يَسوقُهم بالحاجاتِ الدنيويةِ إلى المقاصدِ العَليةِ الدينيةِ ".

ويكفي العبدَ-عباد الله- عِوضًا من إجابتِه أنْ يَفتحَ اللـهُ عليه في لذَّةِ المناجاةِ وإظهارِ الافتقارِ والانكسارِ، فإن من أرفعِ درجاتِ المناجاةِ أنْ يُكرِمَ اللـهُ مَن سبقتْ له الحسنى ممَّنِ اصطفاهم مِن عبادِه ببلوغِ منزلةِ التَّلذُّذِ بحلاوةِ تلك المناجاةِ، وذوْقِ طعمِ الافتقارِ إليه، وتيقُّنِ الإفلاسِ ممَّا سواه؛

فتلك اللذةُ هي أعظمُ لذاتِ الدنيا على الإطلاقِ. قال الحسنُ البصريُّ: " إنَّ أحباءَ اللـهِ همُ الذين وَرِثوا أطيبَ الحياةِ بما وَصلوا إِلَيْهِ من ‌مناجاةِ حبيبِهم، وبما وجدوا من لذَّة حبِّه في قلوبِهم". وقال أحدُ السلفِ- وهو يذوقُ لذَّةَ العبادةِ والطاعِة ومُتعةَ المُناجاةِ -: "لقد كنتُ في حالٍ أقولُ فيها: إن كان أهلُ الجنةِ في هذه الحالِ إنهم لفي عيشٍ طيبٍ".

 

 

أيها المباركُ: اجعلْ لمناجاةِ ربِّكَ جزءً من يومِك؛ لا تترُكهُ وإنْ قلَّ؛ تشكرُه على نعمِه، وتلهجُ بذِكرِه، وتتلو كتابَه، وتستغفرُه خطاياك، وتبثُّ إليه همومَك، وتسألُه حاجتَك؛ وسترى لهذه المناجاةِ أثرًا بالغَ الحُسْنِ في حياتِكَ وبعد مماتِكَ، وستنعمُ بحلاوةٍ ولذَّةٍ تفوقُ كلَّ لذاتِ الدُّنيا.     ثم صلوا...

المرفقات

1747144119_لذة المناجاة.pdf

1747144328_لذة المناجاة.doc

المشاهدات 386 | التعليقات 2

.


.