(لينفق ذو سعة من سعته)
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
الحمْدُ لِلَّهِ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ، ذي الفضلِ والإحسانِ، والجودِ والإنعامِ، الْوَاسِعِ الْبَاسِطِ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ..
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
فِي زمنِنا المعاصرِ، سَيْطَرَتِ الْمَادَّةُ عَلَى حَيَاةِ النَّاسِ، وَطَغَتِ الْمَظَاهِرُ عَلَى مَعَاشِهِمْ، وَنُسِيَتْ حِكْمَةُ الْخَلْقِ وَالْوُجُودِ، الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، مِمَّا أَدَّى إِلَى اخْتِلَالِ مَعَايِيرِ التَّمَيُّزِ والنجاحِ، وَانْقِلَابِ مَوَازِينِ التقديرِ والْإِعْجَابِ، فَأَصْبَحَتْ لَدَى الْبَعْضِ الْمَظَاهِرُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ وَالْكَمَالِيَّاتُ هِيَ مَصْدَرَ الْحُكْمِ، فصَارَ مَنْ يَمْتَلِكُ مَنْزِلًا وَاسِعًا، أو سَيَّارَةً فَارِهَةً، أَوْ عَدَدَ مُتَابِعِينَ لحساباتِه، هُوَ مَحَطَّ الْأَنْظَارِ وَالتَّقْدِيرِ، وَغَابَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
اَلْإِسْلَامُ لَا يَعِيبُ الظُّهُورَ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَالتَّمَتُّعَ بِمَا وَهَبَ الْكَرِيمُ سُبْحَانَهُ، كما قَالَ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ)، إِنَّمَا الْخَلَلُ فِيمَنْ يَظْهَرُ بِمُسْتَوًى مِنَ الْعَيْشِ وَالرَّفَاهِيَةِ عَلَى حِسَابِ تَحَمُّلِ ذِمَّتِهِ مَا لَا تُطِيقُ، وَمَنْ يَتَمَلَّكُ وَيَقْتَنِي لَيْسَ مِنْ سَعَةٍ وَقُدْرَةٍ، وَإِنَّمَا بِالْقُرُوضِ الْمُثْقَلَةِ، وَالدُّيُونِ الْعَسِيرَةِ.
تَأَمَّلُوا -رَعَاكُمُ اللَّهُ- فِي حَالِ بَعْضِ النَّاسِ، تَجِدْ أَثَاثَ مَنْزِلِهِ رَاقٍ، وسَيَّارَتَهُ حَدِيثَةً، ومقتنياتِه فاخرةً، وفي حقيقةِ أمرِه وواقعِه يَعِيشُ في همٍ وضِيقٍ، بسببِ ثُقلِ الدُّيُونَ، ورُبَّمَا لَا يَمْلِكُ دَخْلًا ثَابِتًا، أَوْ يَعِيشُ عَلَى دَعْمٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ، وَهُنَا يَكْمُنُ الْخَلَلُ، وَهُوَ عَلَامَةُ الْبُعْدِ عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ، وَدَلِيلٌ التَّسَرُّعِ فِي الْقَرَارَاتِ، وَمُؤَشِّرٌ عَلَى مُسَايَرَةِ النَّاسِ.
لَقَدْ أَرْشَدَ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى أُسْلُوبِ الْإِنْفَاقِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّمَلُّكِ، وَذَلِكَ حِينَ عَلَّقَ تَعَالَى الْإِنْفَاقَ بِالْقُدْرَةِ وَالْوُسْعِ، قَالَ جل في علاه: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾، فَمَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فِي الْمَالِ فَلْيُنفِقْ دُونَ إِسْرَافٍ وَلَا تَبْذِيرٍ، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ.
أَمَّا مَنْ أَنْفَقَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَتَجَاوَزَ حُدُودَ وُسْعِهِ، وَاسْتَدَانَ لِلرَّفَاهِيَةِ، وَتَمَلَّكَ بِالْآجِلِ الْمُثْقَلِ لِلْكَاهِلِ، حَتَّى يَعِيشَ حَيَاةً لَيْسَتْ حَيَاتَهُ، وَيُسَايِرَ الْمُجْتَمَعَ، فَقَدْ خَالَفَ التَّوْجِيهَ الْقُرْآنِيَّ، وَأَلْقَى حَيَاتَهُ لِلْمَخَاطِرِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ السَّرَفَ وَالتَّبْذِيرَ، وَكَانَ الْإِنْفَاقُ الْعَالِي عَادَةً لَهُ وَسَجِيَّةً.
إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي حَالِ الْبَعْضِ، يَجِدُهُ لَا يَمْتَلِكُ مِنْ دَخْلِهِ إِلَّا الْفُتَاتَ، بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ مُعْظَمُهُ إِلَى أَقْسَاطِ الْقُرُوضِ وَالْعَقَارَاتِ والشركاتِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ مَا يَفِي حَاجَاتِ أُسْرَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ؛ مِنْ طَعَامٍ وَتَعْلِيمٍ وَدَوَاءٍ، وَفَوَاتِيرَ ثَابِتَةٍ، وَالْتِزَامَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ.
كَمْ مِنَ الْبُيُوتِ اهْتَزَّتْ أَرْكَانُهَا بِسَبَبِ هَذِهِ الدُّيُونِ! وَكَمْ مِنَ الْأُسَرِ تَفَكَّكَتْ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَاجِزٌ عَنْ تَوْفِيرِ الْمَطَالِبِ بِسَبَبِ أَقْسَاطٍ أَثْقَلَتْ كَاهِلَهُ!
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ النَّفْسِيَّةِ، وَالسَّلَامِ الْأُسَرِيِّ، وَالطُّمَأْنِينَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ: أَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ وَفْقَ قُدْرَتِهِ، وَفِي مُسْتَوَى طَاقَتِهِ، دُونَ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَبَعِيدًا عَنْ مُسَايَرَةِ الْمُجْتَمَعِ، مُلْقِيًا بِنَظْرَةِ النَّاسِ وَتَقْيِيمِهِمْ خَلْفَ ظَهْرِهِ.
تَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: "مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ)، أَيْ: مَا افْتَقَرَ مَنْ كَانَ مُعْتَدِلًا فِي نَفَقَتِهِ.
وَمِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ الْقَصْدِ فِي الْعَيْشِ، والْإِنْفَاقِ فَوْقَ الْوُسْعِ وَالْقُدْرَةِ، مَا أَخْبَرَ بِهِ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى حينَ قال: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾، تَأَمَّلْ تَعْبِيرَ الْقُرْآنِ للمنفقِ فَوْقَ طَاقَتِهِ ووسعِه بِمَنْ بَسَطَ يَدَه كُلَّ الْبَسْطِ، فَهِيَ تُضيّعُ المالَ ولَا تُمْسِكُه ولا تُدبُّره، فتكونَ النَتِيجَةُ، ما أخبرَ به تعالى في قوله: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾، أَيْ: تَصِيرُ مَلُومًا يَلُومُكَ النَّاسُ ومَنْ حولَك، حين كَلَّفْتَ نَفْسَكَ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهَا، وأَخرجَتَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ، ﴿مَّحْسُورًا﴾، أَيْ: حَاسِرَ الْيَدِ فَارِغَهَا، غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِقَامَةِ شُؤُونِك، وَلَيْسَ لَك مَالٌ مُدَّخَرٌ تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك أَوْ أَهْلِك أَوْ ضَيْفِك.
فخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ، وَالتَّوَازُنُ وَالِاعْتِدَالُ هُوَ نَّهْجُ الْإِسْلَامِ، وَدَعْوَةُ الْقُرْآنِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ يَسَّرَتِ الْبُنُوكُ وَالشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ الْقُرُوضَ، وَسَهَّلَتِ الْحُصُولَ عَلَيْهَا، وَأَغْرَتِ الْمُسْتَثْمِرِينَ بِالتَّسْهِيلَاتِ، وَمُؤَخَّرًا تَسَابَقَتْ فِي عُرُوضِ الدَّفْعِ الْمُؤَجَّلِ، وَخَدَعَتِ الْمُسْتَهْلِكِينَ بِتِلْكَ الْبِطَاقَاتِ، حَتَّى أَصْبَحَ التَّمَلُّكُ السَّرِيعُ سُلُوكًا عَامًّا، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْقُدْرَةِ، وَأَعْلَى مِنَ الْوُسْعِ، وَبِدُونِ دِرَاسَةٍ.
وَعَلَيْهِ. تَسَاهَلَ الْبَعْضُ فِي الدُّيُونِ مِنْ أَجْلِ الْكَمَالِيَّاتِ، وَأَصْبَحَ الدَّفْعُ بِالْآجِلِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ ذَوِي الدَّخْلِ الْمَحْدُودِ، وَغَزَتْ بِطَاقَاتُ الدَّفْعِ بِالْآجِلِ أَصْحَابَ الْمُكَافَآتِ الدِّرَاسِيَّةِ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ مُسْتَقْبَلِ مَنْ يَنْشَأُ عَلَى الدُّيُونِ وَالْقُرُوضِ.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ:
جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ سَابِقًا أَنْ تَمَلُّكَهُمْ لِلْمَسْكَنِ يَأْخُذُ أَزْمِنَةً عَدِيدَةً، يَقْضُونَ فِي بنائِه وتَمَلُّكِهِ مُدَدًا طَوِيلَةً، بَعِيدًا عَنِ الدُّيُونِ الْمُثْقَلَةِ وَالطَّوِيلَةِ الْأَمَدِ، حتى خاضَ البعضُ الْيَوْمَ تَجْرِبَةَ التَّمَلُّكِ السَّرِيعِ لِلْعَقَارِ، بمقابلٍ ماليّ مثقلٍ وعسيرٍ، أغرق البعض في وَحَلِ الدُّيونِ، ووَرْطَةٍ مَالِيَّةٍ تَصِلُ إِلَى رُبْعِ قَرْنٍ، يَشُقُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا.
إِنَّ فَتْحَ الْمَصَارِفِ التِّجَارِيَّةِ وَالشَّرِكَاتِ أَبْوَابَهَا لِلنَّاسِ، وَكَثْرَةَ الْمُنْتَجَاتِ الْمَالِيَّةِ لَا يَعْنِي أَنْ يَخُوضَ الجميعُ التَّجْرِبَةَ دُونَ دِرَاسَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ.
لَقَدْ شَهِدَتِ الْوِلَايَاتُ الْمُتَّحِدَةُ الْأَمْرِيكِيَّةُ أَزْمَةَ عَامِ 2007م، كَانَ سَبَبُهَا الْقُرُوضَ الْعَقَارِيَّةَ، حِينَ بَدَأَ التَّوَسُّعُ فِي قُرُوضِ الإسكان، ثُمَّ انْتَهَتْ بِتَشْرِيدِ الْمَلَايِينِ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمُ الْمَرْهُونَةِ، وَتَسَبَّبَتْ في خَسَائِرَ فَادِحَةً، بِسَبَبِ الِاسْتِدَانَةِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَالتَّعَلُّقِ بِوَهْمِ التَّمَلُّكِ دُونَ تَخْطِيطٍ، مَعَ عَجْزِ الْمُقْتَرِضِينَ عَنِ السَّدَادِ، وَانْخِفَاضِ قِيمَةِ الْعَقَارَاتِ.
إِنَّ مَنْ يَحْصُلُ عَلَى قُرُوضٍ عَالِيَةٍ، وَسَدَادُهَا يَتَجَاوَزُ ثُلُثَيْ دَخْلِهِ الشَّهْرِيِّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي عُنُقِ زُجَاجَةٍ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ وَأُسْرَتَهُ لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ.
عِبَادَ اللَّهِ:
لَقَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ حُبَّ الْمَالِ، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُوقِعَ الْمُسْلِمَ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَنَهَى، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوَّلًا أَنْ يَتَحَرَّى الْحَلَالَ قَبْلَ أَيِّ تَعَامُلٍ مَعَ الْبُنُوكِ وَالشَّرِكَاتِ، فَهُنَاكَ تَعَامُلَاتٌ رِبَوِيَّةٌ، لَا يَعْرِفُ حُرْمَتَهَا إِلَّا أَصْحَابُ الِاخْتِصَاصِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، وَالتَّسَاهُلُ عَلَامَةُ خُسْرَانٍ، وَبِدَايَةُ هَلَاكٍ، وَمَحْقٌ لِلْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾، وَقَدْ لَعَنَ ﷺ آكِلَ الرِّبَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَأَخْبَرَ ﷺ أن: "الرِّبَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ" (رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فكَيْفَ لِلْعَبْدِ أَنْ تَسْتَقِرَّ حَيَاتُهُ، وَتُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ، وَهُوَ لَا يُبَالِي كَيْفَ حَصَلَ عَلَى الْمَالِ وَاكْتَسَبَهُ، وَكَيْفَ أَنْفَقَهُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَنَا بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ، وَبِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، عِبَادَ اللَّهِ:
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَصِيفَ، الْمُشْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ يَسْعَى جَاهِدًا عَلَى أَنْ يَلْقَى رَبَّهُ بَرِيءَ الذِّمَّةِ، غَيْرَ مُتَوَرِّطٍ بِحَقٍّ وَلَا مُطَالَبَةٍ، فَالْحِسَابُ ثَمَّ عَظِيمٌ، وَالْمَوْقِفُ جَلِيلٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَلْنَعْلَمَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَشْغَلُ ذِمَّةَ الْمُؤْمِنِ، وَيُثْقِلُ كَاهِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الدَّيْنَ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُغْفَرُ مَهْمَا بَلَغَ صَلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَلَوْ قُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال ﷺ: "يَغْفِرُ اللَّهُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَالدَّيْنُ هَمُّ اللَّيْلِ، وَذُلُّ النَّهَارِ، يُزْعِجُ الْقُلُوبَ، وَيُشَتِّتُ الْأَفْكَارَ، وَلَهذا كَانَ ﷺ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ). (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ:
عَلِّمُوا مَنْ حَوْلَكُمْ ثَقَافَةَ الْقَصْدِ فِي الْعَيْشِ، وَالشِّرَاءَ عَلَى الْقَدْرِ، وَرَبُّوهُمْ عَلَى الْقَنَاعَةِ، وَتَحَرَّرُوا مِنَ الدُّيُونِ، وَلَا تَجْعَلُوا أَنْفُسَكُمْ أُسَرَى لِلشَّرِكَاتِ، وَلَا عَبِيدًا لِلْبُنُوكِ، وَلَا رَهْنًا لِلْقُرُوضِ طَوِيلَةِ الْأَمَدِ.
وَمَنْ وَقَعَ فِي شَرَكِ الشَّرِكَاتِ والْبُنُوكِ، فَلَا يُكَرِّرْ التَّجْرِبَةَ فِيمَنْ يُحِبُّ، وَلْيَبْذُلْ النصحَ لِلْغَيْرِ.
اِجْعَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى شِعَارًا لِحَيَاتِكُمْ: ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِۦ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّاۤ آتَاهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾.
وَمَنْ أَثْقَلَتْهُ الدُّيُونُ، فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَاشِفِ كُلِّ هَمٍّ، وَمُقْضِي كُلِّ دَيْنٍ، جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، - وَجَبَلُ صِيرٍ؛ مِنْ أَعْلَى جِبَالِ الْيَمَنِ - قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
المرفقات
1754625367_خطبة لينفق ذو سعة من سعته - للجوال.pdf