محبة الصحب والآل.
الشيخ محمد الوجيه
محبة الصحب والآل.
الشيخ محمد الوجيه
الخطبة الأولي:
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ للدينِ أنصاراً وأعواناً، واصطفى لِنبيِّهِ أصحاباً فُضلاءَ وآل بيت أكارماً، جعلهم للدينِ حُصوناً ومَعاقلاً، كالنُّجومِ بِأيِّهمُ اقتديتُم اهتديتُم، جَعلَ لِلصحابةِ السبقِ بالإيمان، وزكَّى آلَ البيتِ في مَحكمِ القرآن.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، جَعلَ مَحبتَهم من مَحبتهِ ورسولِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خَيرُ مَن شَيَّدَ لِلمجدِ بِيتاً، وأكرمُ مَن رَفَعَ لِلحقِّ صِيتاً، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ الذينَ هم مَعدنُ الرِّسالة، وصَحابَتِهِ الذينَ هم عُنوانُ البَسالة، والتابعينَ لهم بِيَقينٍ وأصالة.
أما بعدُ عبادَ الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
لقد نَزَلَ الروحُ الأمينُ بآياتٍ تَتلوها الألسنُ في المحاريب، ويخضعُ لها قلبُ كلِ عبدٍ منيب؛ تَمدحُ الصحابةَ الكرام، فتقولُ عنهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. شِدَّةٌ تَدُكُّ عُروشَ الطغيان، ورَحمةٌ تَبني صُروحَ الإيمان.
يقولُ ابنُ القيمِ رحمهُ الله: "جمعوا بينَ عِزةِ القلوبِ وعِظَمِ السيادة، وبَينَ ذُلِّ العبادةِ وحُسنِ السَّجَادَةِ".
ثمَّ التفتوا عبادَ الله:
إلى الدَّوحةِ النبوية، والعِترةِ الزكية؛ آلِ بَيتِ المصطفى ﷺ. الذينَ قالَ اللهُ فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
يقولُ ابنُ كثيرٍ: "تطهيرُهم تَشريفٌ لا يَدانيهِ تَشريف، وتكريمٌ لا يُطاولُهُ وَصيف".
فهم كالغُصنِ من تلكَ الشجرة، والضياءِ من تلكَ الدُّرة. مَودتُهم أجرٌ مُقدَّم، وحُبُّهم فَرضٌ مُحكَم."
أيها المؤمنون: إنَّ حبَّ صحابةِ رسولِ الله ﷺ دِينٌ وإيمان، وبُغضهم كفرٌ ونفاق وطغيان. لقد سطرَ القرآنُ الكريمُ لهم في دواوينهِ أسمى آياتِ الثناء، فليسوا مجردَ جيلٍ مضى، بل هم الصفوةُ التي اصطفاها اللهُ لصحبةِ خيرِ البشر.
قال اللهِ جلَّ جلالُه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
ما أعظمها من شهادةٍ تهتزُّ لها الجبال! ربُّ العالمين من فوقِ سبعِ سموات يُعلنُ رضاُه الأبديَّ عنهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: "إنَّ من رضيَ اللهُ عنه لم يسخطْ عليهِ أبداً". فكيفَ يجرؤُ مؤمنٌ بعد ذلكَ أن ينالَ منهم أو يقعَ في عِرضهم؟
إنَّ الصحابةَ هم الذينَ نقلوا لنا هذا الدين، فمن طعنَ في الناقلِ فقد طعنَ في المنقول. إنهم الذينَ بايعوا تحتَ الشجرة، فنزلَ جبريلُ يخبرُ النبيَّ ﷺ بأنَّ اللهَ علمَ ما في قلوبهم من صدقٍ ويقين، فأنزلَ السكينةَ عليهم. فما أحوجنا اليومَ أن نغرسَ في قلوبِ أبنائنا حبَّ أبي بكرٍ وعمر، وعثمانَ وعلي، وسائرِ الصحبِ الكرام."
أيها المؤمنون:
إنَّ ميزانَ إيمانِ المرءِ هو موقفُه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقد حصرَ اللهُ عزَّ وجلَّ المؤمنينَ في أصنافٍ ثلاثة في سورةِ الحشر: المهاجرين، والأنصار، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}.
فاحذر يا عبدَ الله أن تكونَ خارجاً عن هذهِ الأصناف. لا تجعل في قلبك غِلاً لأحدٍ منهم. كُن ممن يستغفرُ لهم، ويترحمُ عليهم، وينشرُ فضائلهم.
وكما أن القرآن قد زكاهم، فإن السنة النبوية قد رفعت شأنهم في نصوصٍ تقرع الآذان. يقول النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».
يقول الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): «مقتضى هذا الحديث أن الصحابة أفضل من سائر من بعدهم، لأنهم هم الذين شاهدوا التنزيل، وصحبوا الرسول، وفهموا مقاصد الشريعة ما لم يفهمه غيرهم».
فالصحابة هم "خير الناس" بنص الوحي، واختيارهم لزمان النبي ﷺ لم يكن صدفة، بل كان اصطفاءً ربانياً لقلوبهم التي كانت أبرَّ قلوب الأمة وأعمقها علماً."
اللهمَّ ارضَ عن صحابةِ نبيكِ أجمعين، اللهمَّ طهّر قلوبنا من الغِلِّ لهم، واحشرنا في زمرتهم تحتَ لواءِ نبيكِ الكريم. اللهمَّ اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا.. أقولُ قولي هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم."
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ في ذُريةِ نبيِّه بركةً ونوراً، واصطفى آلَ بيتِهِ ليكونوا مَعدناً للرسالةِ ومَهبطاً للوحيِ ونورا. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، عَظَّمَ قَدْرَ العِتْرةِ النبوية، وأمرَ بمودَّتِهم في الآياتِ القرآنية. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، نَصَحَ الأمةَ في آلِ بَيتهِ وأوصى، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ الطيبينَ الطاهرين، وعلى صحابتهِ الغُرِّ الميامين.
أما بعدُ عبادَ الله:
فإنَّ مَحبةَ آلِ بَيتِ رسولِ اللهِ ﷺ جُزءٌ لا يتجزأُ من مَحبةِ النبيِّ ﷺ، وعقيدةٌ يَدينُ بها كلُّ مسلمٍ يَرجو اللهَ واليومَ الآخر. لقد نطقَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ طهارتِهم ورِفعةِ مَنزلتِهم، فقالَ سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33).
إنَّ مَودَّةَ آلِ البيتِ ليست تفضلاً منا، بل هي أمرٌ إلهي، قالَ تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}.
يقولُ البغويُّ في تفسيرهِ: "أي: تَودُّوني في قَرابتي وتحفظوني فيهم". فحقُّهم علينا المحبةُ والنُّصرة، والدعاءُ والتقدير، فلا صلاةَ لنا إلا بالصلاةِ عليهم كما نقولُ في تَشهدِنا: «اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمد».
أيها المؤمنون: لقد جاءت السنةُ النبويةُ كاشفةً لِهذهِ المنزلة، ففي صحيحِ مسلم، قامَ النبيُّ ﷺ خطيباً فقال: «أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي».
يقولُ الإمامُ النوويُّ في شَرحهِ: "قالهُ حثاً على إكرامِهم، ومعرفةِ حقِّهم، وصِيانتِهم عن الأذى".
يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِها: "هذهِ الآيةُ نَصٌّ في دخولِ أزواجِ النبيِّ ﷺ في أهلِ البيتِ، ودخولُ عليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ رضيَ اللهُ عنهم هو آكدُ وأولى".
إنَّ مَنهجَ أهلِ السنةِ والجماعةِ في آلِ البيتِ مَنهجٌ وسَطٌ عظيم؛ فنحنُ نُحبهم ونُواليهم، ونعرفُ فَضْلَهم الذي شَرَّفهم اللهُ به، ولا نَجفو عنهم، ولا نغلو فيهم غُلواً يخرجُ بهم عن مَقامِ البشرية.
لقد كانَ الصَّحابةُ الكرامُ أعظمَ الناسِ حُبَّاً لآلِ البيت؛ فهذا أبو بكرٍ الصديقُ رضيَ اللهُ عنه يقول: "والذي نفسي بيدِهِ لَقرابةُ رسولِ اللهِ ﷺ أحبُّ إليَّ أن أَصِلَ من قَرابتي". ويقولُ أيضاً: "ارقبوا محمداً ﷺ في أهلِ بيته".
واعلموا يا عبادَ الله، أنَّ العلاقةَ بينَ الصحبِ والآلِ لم تكن مجردَ رِفقةِ طريق، بل كانت وشائجَ صِهرٍ ونَسَب، وعُقودَ وُدٍّ وحَسَب. فلقد امتزجت الدماءُ الزكيةُ بالدماءِ الطاهرة؛ فكانَ الصديقُ والفاروقُ أصهاراً للنبيِّ ﷺ، وكانَ ذو النورينِ وعليٌّ أزواجاً لبناتِهِ الطاهرات.
إنَّ هذا التلاحمَ يُعلمنا حقيقةً كُبرى أنَّ مَن خَسِرَ محبة الصحابة أو الآل فقد خَسِرَ دِينه، ومَن نَقَصَ حَقَّ صِنْفٍ منهما فقد ضَلَّ سَبيله. فحبُّ الصحابةِ من أعظمِ القُرُبات، وحبُّ الآلِ من أسمى المودات الى رسولِ الله ﷺ.
إنَّ الدِّينَ كالبناءِ الواحد؛ فمَن كانَ في قلبهِ شَيءٌ على الصحابةِ ففي دِينهِ خَللٌ وشيء، ومَن كانَ في قلبهِ شَيءٌ على آلِ رسولِ الله ﷺ ففي مَحبتهِ لِرسولِ اللهِ نَظرٌ وقُصور. فكيفَ يَزعمُ مَحبةَ الأصلِ مَن يُبغضُ الفَرع؟ وكيفَ يَدَّعي مَحبةَ القائدِ مَن يَطعنُ في جُندهِ المخلصين؟"
اللهمَّ ارزقنا مَحبةً صادقةً لِصحابةِ نبيكَ الميامين، ولآلِ بَيتِهِ الطيبين، اللهمَّ احشرنا في زُمرةِ مَن رضيَ اللهُ عنهم ورَضوا عنه، ولا تَفتِنَّا بَعدهم، واجعلنا ممن حَفِظَ عهدَ نبيهِ في صَحْبِهِ وآلِه.
اللهمَّ اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم."
المرفقات
1766055182_DOC-20251218-WA0094..pdf