مرحبا رمضان
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أيُّهَا المُسْلِمُونَ : جاءَ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه قَالَ : قالَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم : " إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ من رمَضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومَردةُ الجِنِّ وغلِّقت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ" كَمَا سَمِعْتُم أنعَم اللهُ عزَّ وجلَّ على عِبادِه بمَواسِمَ مِن الخيراتِ يَحصُلون فيها بسَببِ الأعمالِ الصَّالحةِ القليلةِ على الثَّوابِ الكثيرِ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن نِعَمِه سُبحانَه أيضًا أنْ سَخَّر الله لهم مِن الأسبابِ ما يُعينُهم على أدائِها على الوجْهِ الأكمَلِ لها.
عِبَادَ اللهِ :هُنا يُخبِرُنا الصَّاحبُي الجَلِيلُ أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ مِن رمَضانَ"، أي: إنَّه مَع بَدْءِ شهرِ رمَضانَ تَحدُثُ علاماتٌ على دُخولِه، وهَدايا مِن اللهِ لعِبادِه؛ فأُولى هذه العلاماتِ والهدايا هي ما جاء في قولِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومَردةُ الجِنِّ" أي شُدَّتْ عليهِم الأغلالُ والسَّلاسِلُ ، والمَردةُ هم رُؤساءُ الشَّياطينِ المتجرِّدون للشَّرِّ، أو هم العُتاةُ الشِّدادُ مِن الجِنِّ، والحِكمةُ في تَغْليلِهم حتَّى لا يَعمَلوا بالوَساوِسِ للصَّائِمين ويُفسِدوا عليهم صَومَهم، وقيل: يَعْني كَثرةَ الأجرِ والثَّوابِ والمغفرةِ بأن يَقِلَّ إضلالُ مرَدةِ الشَّياطينِ للمُسلِمين، فتَصيرَ الشَّياطينُ كأنَّها مُسلسَلةٌ عن الإغواءِ والوَسوَسةِ ، وقيل: إنَّ الشَّياطينَ إنَّما تُغَلُّ عن الَّذين يَعرِفون حَقَّ الصِّيامِ المعظِّمين له، ويَقومون به على وَجهِه الأكمَلِ، ويُحقِّقون شُروطَه وأخلاقَه وآدابَه، أمَّا الَّذي امتنَع عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ولم يَعرِفْ للصِّيامِ حَقَّه، ولم يَأتِ بآدابِه على وجهِ التَّمامِ، فليس ذلك بأهلٍ لِتُغَلَّ الشَّياطينُ عنه؛ فيكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس ، ويَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ: أنَّ الشَّياطينَ لا يَخلُصون مِن افتِتانِ المسلِمين إلى ما يَخلُصون إليه في غيرِ شهرِ رمَضانَ؛ لاشتِغالِهم بالصِّيامِ الَّذي فيه قَمعُ الشَّهواتِ، وبقِراءةِ القرآنِ والذِّكرِ.
عِبَادَ اللهِ : والهديَّةُ الثَّانيةُ "وغُلِّقَت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ"، وهذا كالتَّأكيدِ لِمَا سبَق مِن أنَّ غَلْقَ أبوابِ النَّارِ هي مَزيدٌ لِغَلقِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الشَّرِّ، وأنَّ فَتْحَ أبوابِ الجنَّةِ هو مَزيدٌ لفَتحِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الخيرِ، وقيل: الفتحُ والغلقُ المَذْكورانِ هما على الحَقيقةِ؛ إكْرامًا مِن اللهِ لعِبادِه في هذا الشَّهرِ.
عِبَادَ اللهِ : والهديَّةُ الثَّالثةُ "ونادى مُنادٍ"، أي: مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ: "يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ"، أي بأنَّ هذا الشَّهرَ يُرغِّبُ في أعمالِ الخيرِ وخاصَّةً عِندَ أصحابِها؛ لِمَا فيه مِن الأسبابِ الَّتي تُعينُه على ذلك؛ فأقبِلوا على اللهِ وعلى طاعتِه، "ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ"، أي: أمسِكْ عنه وامتَنِعْ؛ فإنَّه وقتٌ تَرِقُّ فيه القلوبُ للتَّوبةِ.
عِبَادَ اللهِ : والهديَّةُ الرَّابعةُ "وللهِ عُتَقاءُ مِنَ النَّارِ"، أي: وللهِ عُتقاءُ كَثيرونَ مِن النَّارِ؛ فلْيَحرِصْ كلُّ لَبيبٍ على أنْ يَكونَ مِن زُمرَتِهم، "وذلِك في كلِّ ليلةٍ"، أي: مِن مَزيدِ رَحمةِ اللهِ لعبادِه أن يُعتِقَ مِن النَّارِ عِبادًا له في كلِّ ليلةٍ مِن لَيالي رمَضانَ، وهذا لِلحَضِّ على الاجتِهادِ في هذا الشَّهرِ الفَضيلِ؛ حتَّى يَكونَ العبدُ مِن هؤلاءِ العُتَقاءِ، ويُرزَقَ النجاةَ مِن النِّيرانِ، والفوزَ بالجِنانِ.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللهِ : حَثَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عِبادَه على المُسارَعةِ إلى الخَيراتِ، ووَعَدَ عليها بالثَّوابِ الجَزيلِ في الدُّنيا والآخِرةِ ، ويَحْكي أبو هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: " مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِن أبْوَابِ الجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللَّهِ هذا خَيْرٌ، فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّلَاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِن بَابِ الجِهَادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِن بَابِ الرَّيَّانِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ ما علَى مَن دُعِيَ مِن تِلكَ الأبْوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قالَ: نَعَمْ وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ " فَهُنَا قدْ جعَل اللهُ عزَّ وجلَّ لكلِّ عِبادةٍ بابًا مَخصوصًا في الجنَّةِ؛ فالمُكثِرون مِن الصَّلاةِ النافلةِ بعْدَ أداءِ الفرائضِ يُنادَون مِن بابِ الصَّلاةِ، ويَدخُلون منه، وهكذا الأمرُ بالنِّسبةِ إلى سائرِ العباداتِ مِن جِهادٍ وصَدَقةٍ، والمُكثِرون مِن الصَّومِ تَستقبِلُهم الملائكةُ عندَ بابِ الرَّيَّانِ داعيةً لهم بالدُّخولِ منه، والرَّيَّانُ: مِن الرِّيِّ، وهو نَقيضُ العَطَشِ؛ وسُمِّي بذلك؛ لأنَّه مَن دخَله لم يَظمَأْ أبدًا، وفي تَسميةِ البابِ بذلك مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ لأنَّه جَزاءُ الصَّائِمينَ على عَطَشِهم وجُوعِهم، واكتُفِيَ بذِكرِ الرِّيِّ عن الشِّبَعِ لأنَّه يَستلزِمُه، أو لكونِه أشقَّ على الصَّائمِ مِن الجُوعِ.
أيُّهَا المُسْلِمُونَ : فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْتَغِلَّ الْمُسْلِمُ عُمَرَهُ وَفُرْصَةَ إِدْرَاكِهِ رَمَضَانَ وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْفَضَائِلِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وأْنْ يَقْتَدِي بِالْقُدُوَاتِ مِنْ ذَوِي الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ مِثْلِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ حِينَمَا قال :" بأَبِي أنْتَ وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ ما علَى مَن دُعِيَ مِن تِلكَ الأبْوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قالَ: نَعَمْ وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ " ،اللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا وَ وَالِدِينَا وَمَنْ نُحِبُّ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لاخَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ