مطبوعة مشكّلة: من سنن الله: نصرة المظلوم وعقاب الظالم

عبدالكريم الخنيفر
1446/07/16 - 2025/01/16 18:38PM
الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضللْ فَلا هاديَ له.
وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنها السبيلُ إلى الفلاحِ في الدنيا والآخرة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
أيها المسلمون...
كلُّ مجموعةٍ مؤتلفةٍ من الناس تسيرُ وفقَ نظامٍ محدد، وكلَّما كَبُرتْ المجموعةُ صارَ النظامُ أشدَّ دقة، فكيفَ بهذا الكونِ الفسيحِ العظيمِ الذي حوى أصنافًا وألوانًا من المخلوقاتِ لا يحصيْها إلا الذي خلقها!
ما ظنُّكمْ بالنظامِ المحكمِ المتينِ الذي يسيرُ عليه هذا الكونُ من لدنْ الخالقِ جلَّ ثناؤُه وتقدَّستْ أسماؤُه.
هذا النظامُ المحكم ُهو سُنَّةُ اللهِ الواضحةُ والمستقرةُ التي لا تتغيرُ مهما تغير الزمن: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ وقد تكررَّ ذكرُها في كتابِ اللهِ عدة مرَّات؛ تذكيرًا بها وتنبيهًا عليها وحثًّا للاعتبار منها: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وما دامَ اللهُ ﷻ قد وضَّحَ هذا النظامَ الكونيَّ، فليسَ للإنسانِ إلا أن يسيرَ على سَننهِ لكي ينجوَ في حياتِهِ الدنيا وينجحَ في الآخرة: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾.
ومع ذلك.. فإنَّ اللهَ يرحمُنا بأنْ يُريَنا أمثلةً واقعيةً حيةً لهذه السُّننِ الكونية؛ فنعتبرَ منها ونتمسكَ بها ونزدادَ يقينًا وإيمانًا: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ۝ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
وفي هذه الأيام نرى عيانًا بيانًا من سُننِ اللهِ ما يزيدُ القلبَ يقينًا وإيمانًا، فَمِنْ ذلك: نُصرةُ اللهِ للمظلومِ على الظالمِ ولو بعدَ حينٍ من الزمن، متى ما اعتصمَ هذا المظلومُ بأسبابِ النصر، قال ﷻ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾؛ وها هي تتحقق سُنَّةُ الله، فرأينا المظلومَ الذي كان ضعيفًا مطاردًا قد نَصرهُ اللهُ وتبدَّلتْ حالُهُ وصارَ عزيزًا ممكَّنًا.
وإنَّ في ذلك لعبرةً لصاحبِ القلبِ الحي، ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾. قال السعديُّ رحمه الله: "ففي هذا عبرةٌ لأولي الأبصار، أي: أصحابَ البصائرِ النافذةِ والعقولِ الكاملة.. على أنَّ الطائفةَ المنصورةَ معها الحقّ، والأخرى مبطلةٌ، وإلا فلو نَظَرَ النَّاظرُ إلى مجردِ الأسبابِ الظاهرةِ والعَدَدِ والعُدَدِ لجزمَ بأنَّ غلبةَ هذه الفئةِ القليلةِ لتِلكَ الفئةِ الكثيرةِ مِنْ أنواعِ المحالات، ولكنَّ وراءَ هذا السببِ المشاهَدِ بالأبصارِ سببًا أعظمَ منهُ لا يُدركهُ إلا أهلُ البصائرِ والإيمانِ باللهِ والتوكلِ على اللهِ والثقةِ بكفايتِه، وهو نصرُهُ وإعزازُهُ لعبادِهِ المؤمنينَ على أعدائِهِ الكافرين".
ومع ذلك فإنَّ نصرَ اللهِ لا يُقاسُ بعددِ الضحايا ولا بالخسائرِ الماديةِ والمباني المهدمة، بل بظهورِ شوكةِ الإسلامِ وانكسارِ شوكةِ الظلم، ومصداقُ ذلك أنَّ اللهَ سمَّى صلحَ الحديبيةِ على ما فيه من أمورٍ ظاهرُها الضررُ على المسلمين سمَّاهُ فتحًا مبينًا، فقال: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾. فاتقوا الله يا عبادَ الله، واعلموا أنَّ اليقينَ بنصرِ اللهِ -ولو بعدَ حين- واجبُ المسلمين إذا تكالبتْ عليهم الأعداء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ هذه يا عبادَ اللهِ سُنَّةُ اللهِ التي لا تتبدل.. وإرادتُه التي لا تُكسر، فسبحانَ ذي الجبروتِ والملكوتِ والكبرياءِ والعظمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، أما بعد...
عبادَ الله، وإنَّ من سُننِ اللهِ العظيمةِ ما يُرسلُهُ للناسِ من تنبيهاتٍ وتحذيراتٍ لكي يستيقظوا ولا يتمادوا في غفلتهم، وهذهِ الرسائلُ إما أن تكونَ خيرًا أو شرًّا، قال تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فالقصد من الابتلاءِ أن يرجعَ الناسُ إلى ربِّهم، وينبذوا غفلَتَهُم، ويتركوا كِبرًا حَشَا صدورَهم ما هم ببالغيه.
وربما لا ينتبه الإنسان لابتلاءِ الخيرِ لأنه يلهو في نعمائه، لكنَّ ابتلاءاتِ الشرِّ أدعى لليقظةِ والثوبةِ إلى الله، فالمشركونَ في الزمنِ القديمِ على ظُلمِهِم العظيمِ كانوا إذا شعروا بالخوفِ يدعونَ اللهَ مخلصينَ له الدين.
ويا للعجب من أهلِ هذا الزمنِ حين ظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم التقنيةُ وتقدُّمُهم العلميُّ من الله.
وهيهاتَ هيهات! فقد وقفوا حائرينَ أمامَ الجوائحِ التي عصفتْ بهم، وها نحنُ اليومَ نشاهدُ حيرتَهم أمامَ تلكمُ النارُ التي تلتهمُ أرضَهم.
وما هذهِ الجوائحُ إلا رسائلُ من اللهِ تحذيرًا من الكِبر على اللهِ والظلمِ في الأرضِ وارتكابِ الموبقات. وهي سنةٌ ربانيةٌ متكررةٌ قد أرسلها إلى من قبلنا، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ وقال عز شأنه: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ﴾، وإن استمرارَ تلكَ الأممِ في كِبرها على الله وظلمِها للخلق موذنٌ بعذابِ ماحق، قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۝ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ۝ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
اللهم ردَّنا إليك ردًّا جميلا، ولا تقبضنا إلا وأنت راضٍ عنَّا.
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بكَ من زوال نعمتِك، وتحوِّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نقمتِك، وجميعِ سخطِك.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمين، وولِّ عليهم خيارَهم واكفهم شرَّ شرارِهم.
اللهم من أرادنا بسوء أو فتنة أو إفساد فأشغله في نفسه وردَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه.
اللهم وفِّقْ وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، وخذْ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفقْهُ ونائبَهُ لما فيه صلاح البلاد والعباد.
سبحانَ ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المرفقات

1737041898_‎⁨انتصار المظلوم وعقاب الظالم⁩.pdf

المشاهدات 1097 | التعليقات 0