من تَمامِ التوكّل

نواف الشيخي
1447/05/15 - 2025/11/06 14:38PM
إنَّ الحَمْدَ لله؛ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُه، ونُؤْمِنُ بِهِ ونَتَوَكَّلُ عَلَيْه، ونُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّه، وأَشْهَدُ ألَّا إِلَهَ إلَّا الله، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِه؛ إِيَّاهُ نَعْبُد، ولَهُ نُصَلِّي ونَسْجُد، وإِلَيهِ نَسْعَى ونَحْفِد، نَرْجُو رَحْمَتَهُ، ونَخْشَى عَذَابَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه، وصَفِيُّهُ وخَلِيلُه، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَيه، وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّيْن.. أمَّا بَعْد: فَأُوْصِي نَفْسِي وإيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وجَلّ (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

أما بعد

فكلُّ إنسانٍ يريد أن يكون قويًّا، وكثيرٌ من الناس يدّعون القوة، وكثيرٌ من الدول تتباهى بها، لكنني أحدثكم اليوم عن أقوى الناس. هذا الرجل القوي الذي أحدثكم عنه قد لا يكون من رواد أندية الرياضة، ولا مالكًا لجيوش جرارة، ولا ذا أسلحةٍ بتّارة، إنه فرد، لكنه أقوى الناس.

أقوى الناس – يا موفق – هو أنت، نعم، هو أنت، إذا توكلت على القوي سبحانه وتعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مَن سَرَّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله".

فلأننا في عصرٍ ضُخِّم فيه الحديث عن الأسباب، وبالغت دورات التطوير في تمجيد الذات، ونفخت في عبارات الثقة بالنفس، حتى كاد يختفي الحديثُ عن الثقة بالله والتوكل عليه؛ كان لزاما أن نذكّر بهذه العبادة العظيمة .. فما هو التوكل؟ وما خبر المتوكلين؟

 

أما التوكل، فهو صدق اعتماد القلب على الله في جلب النفع ودفع الضر، مع فعل الأسباب.

وحين يُذكر التوكل، تتجلّى تلك الصور الرائعة، والسِيَرُ المضيئة، لأقوامٍ توكلوا على الله فسلّم أمرهم ونصرهم. تأمّل في شأن موسى عليه السلام حين طارده فرعونُ وجنده حتى ألجأهم إلى عرض البحر، فوقف موسى أمام بحرٍ متلاطمٍ، ومن خلفه فرعونُ وجنوده بجيشٍ عرمرمٍ يرى أوّله ولا يُرى آخره، فقال أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فيجيبهم موسى بتوكل المؤمن الواثق: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).

 فهل خيّب الله من توكل عليه؟ بل شقَّ له البحر شقّين، فكان كل فرقٍ كالجبل العظيم، فمرَّ موسى وقومه، ثم أطبق البحر على فرعون وجنده.

 

وليس خبر محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الغار عنك بخافٍ، إذ أتاه القوم، واستقرّت أقدامهم على مقربةٍ من غاره، فقال الصديق: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، فقال صلى الله عليه وسلم في توكلٍ يهزّ الجبال: "يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما".

ومن قبل ذلك إبراهيمُ عليه السلام حين أضرموا له قومه نارا عظيمة، فلما استقر به الأمر في النار قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فصيّر الله النارَ عليه بردًا وسلامًا.

ونوحٌ عليه السلام قال لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ... فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ).

 

وهذا إمام المتوكلين محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأصل القصة في الصحيحين: أنه في إحدى الغزوات نام مستريحًا تحت ظلّ شجرةٍ وعلّق سيفه عليها، فاستيقظ وأحد المشركين قائمٌ عنده شاهرًا سيفَه، وقال: "من يمنعك مني؟"، فقال عليه الصلاة والسلام: "الله"، فقال المشرك: "أتخافني؟"، قال: "لا"، فسقط السيف من يده، فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "من يمنعك مني؟"، فقال المشرك: "كُنْ خيرَ آخذٍ"، فعفا عنه وأطلقه.

 

وهو عليه الصلاة والسلام كما توكل على الله في الشدائد، توكل عليه في أيسر الأمور، فعندما يخرج من بيته يقول: "بِسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله". حتى إن الله -لكثرة توكله عليه- سمّاه في الحديث القدسي "المتوكل".

 

المتوكلون حسبُهم الله، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، أي كافيه. والله لو دخلت على مسؤولٍ بمعاملةٍ فقال: "أنا أكفيك إياها" لاطمأننت نفسك، وهو مخلوقٌ ضعيف، فكيف بالله الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وهو يقول لك: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسَدّ فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله أن يرزقه عاجلًا أو آجلًا"، وقال أيضًا: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا".

 

عباد الله: أعلى مراتب التوكل هو التوكل على الله

في مصالح الآخرة، وهو أمرٌ يخفى على كثيرٍ من الناس، فتراه يصرف توكله إلى طلب المعاش فقط، مع أن أعظم ما ينبغي للمؤمن أن يتوكل عليه فيه صلاحُ قلبه ودينه؛ لذا شُرع للعبد أن يناجي ربَّه في كل صلاةٍ بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وشُرع له إذا سمع حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، أن يقول: "لا حول ولا قوّة إلا بالله".

 

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم  .

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على تفضّله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه.

 

أما بعد، فحقيقة التوكل أنه حالٌ مركبةٌ من مجموع أمورٍ لا يتم التوكل إلا بها:

فأولها: المعرفة بالله وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميّته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة هي أول درجةٍ يضع

بها العبدُ قدمه في مقام التوكل؛ أن يعرف وكيله الذي يتوكل عليه، فكل من كان بالله وصفاته أعلم، كان توكله أصحَّ وأقوى.

 

والدرجة الثانية: حسن الظن بالله، يقول الله في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي"، فمن عرف ربه حق المعرفة أحسن الظن به وتوكل عليه.

 

والدرجة الثالثة: فعل الأسباب. فقد رأى الفاروق رضي الله عنه قومًا قاعدين في المسجد، فقال: "من أنتم؟" قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم بدرته وقال: "لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".

 

لكن المحذور هنا أن يلتفت القلب إلى السبب وحده، فيضطرب إذا ضعف السبب، فتجده يقول بلسانه: توكلت على الله، وهو في الحقيقة متوكل على السبب، بل الواجب أن يفعل السبب ثم ينساه، ويفوض أمره إلى الله.

وفي هذا معنى بديعٌ لابن القيم رحمه الله إذ يقول: من تمام التوكل أن تقوم الجوارح بالأسباب، ويقوم القلب بالله وحده؛ فهو في الأسباب متصلٌ بها بجوارحه، منقطعٌ عنها بقلبه.

وعلامة ذلك أن قلبه لا يضطرب عند إدبار ما يحب أو إقبال ما يكره، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه.

 

والدرجة الأخيرة: الرضا بأفعال الله بعد التوكل عليه، قال بشر الحافي: "يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله؛ لو توكل على الله لرضي بما يفعل الله".

فربما أحب العبد أمرا فيه هلاكه، فلطَفَ الله به واختار له غيره ، فمن عرف أن وكيله لطيفٌ خبير، عليمٌ حكيم؛ رضي عن قضائه وقدره بلا ريب.

 

والتوكل قبل العمل، والرضا بعد العمل، هما حصنان عظيمان من الهموم والغموم، ويحبهما الله من عباده.

وبهما تكن أقوى الناس، وأسمحهم نفسًا، وأطيبهم عيشًا.

 

فيا أيها الواثق بالله: إذا تكالبت عليك الأيام فأحسن ظنك بالله، وارفع أكفّ الضراعة، وتحرَّ أوقات الإجابة،

وإذا قوي التوكل والرجاء، وجُمع القلب في الدعاء، لم يُردَّ النداء، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء).

المرفقات

1762425527_من تمام التوكل_251106_133553.pdf

المشاهدات 381 | التعليقات 0