مِن حسنِ إِسلَامِ المرء تركه ما لَا يعنِيهِ
عبد الله بن علي الطريف
مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ 1447/2/14هـ
الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه.. وأشهد أن محمداً عبدُ الله، ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أَمَا بَعْدُ أيها الإخوة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَحَهُ اَلْأَلْبَانِيُ. هذا الحديث العظيم قال عنه جماعة من أهل العلم: بأنَّه ثلثُ الإسلامِ.. وذلك أنَّ الإسلام يدور على ثلاثةِ أحاديث.. هذا الحديث، وحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» وحديث: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، والحرامَ بَيِّنٌ».. وقال عنه ابنُ رجبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الأدبِ".. وقال الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: "الإسلام -عند الإطلاق- يدخل فيه الإيمان، والإحسان. وهو شرائعُ الدين الظاهرة والباطنة. والمسلمون منقسمون في الإسلامِ إلى قسمين، كما دَلَّ عليه فحوى هذا الحديث: فمنهم: المحسنُ في إسلامِه، ومنهم: المسيءُ.. فمن قام بالإسلام ظاهرًا وباطنًا فهو المحسن: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).. [النساء:125] فيشتغلُ هذا المحسنُ بما يعنيه، مما يجبُ عليه تَرْكُهُ من المعاصي والسيئات.. ومما ينبغي له تركه كالمكروهاتِ وفُضُولِ المباحات التي لا مصلحةَ له فيها، بل تُفَوتُ عليه الخير.. فهذا الحديث يَعُمُ ما ذكرنا.. ومفهوم الحديث: أن من لم يتركْ ما لا يعنيه، فإِنَّهُ مسيءٌ في إسلامِهِ وذلك شاملٌ للأقوالِ والأفعالِ المنهي عنها نَهْيَ تَحْرِيِمٍ أو نهي كراهة.
انتهى كلام الشيخ بشيء يسير من الاختصار.
أيها الإخوة: ومن جملةِ محاسنِ إسلامِ المسلم، وكمالِ إيمانِهِ تركُه مالا يعنيه، وَمن تركَ مَا لَا يعنيه اشْتغلَ بِمَا يعنيه.. قَالَ الْحسنُ البصري -رَحِمَهُ اللهُ-: "عَلَيْك بِنَفْسِك إِن لم تشغلْها أَشْغَلَتكَ".. وقَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَقَدْ جَمَعَ النَّبَيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ".. وَذُكِرَ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي..
ومن جملة ترك ما لا يعني "ما يقع لبعض الناس من تَتَبُّع الصغيرةِ والكبيرةِ من خصوصيات الناس، فهذا لو لم تَأتِ به الشريعةُ، لنَبَذَتْهُ الفِطْرَةُ السَّليمةُ، ولنفَرَتْ منه النُفُوسُ المستقيمةُ، وهو ممَّا يُوجِبُ العداوةَ والبغضاءَ، ويحملُ على العدوان بين الناس، وهو في الحقيقةِ تتبعٌ للعوراتِ، والفضولِ من القولِ والعملِ".. قاله أحد طلبة العلم معلقًا على هذا الحديث: وَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «دَعْ مَا لَسْتَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَلَا تَنْطِقْ فِي مَا لَا يَعْنِيكَ، وَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ وَرِقَكَ». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو نعيم في حلية الأولياء.. ومرادُ قولِه: «دَعْ مَا لَسْتَ مِنْهُ»؛ أي: ما لا يعنيك شرعًا، أو عرفًا.. وما أكثرَ ما يدخلُ الناسُ فيما ليسوا منه، ولا يعنيهم في قبيلٍ ولا دبيرٍ، ولا قليلٍ ولا كثيرٍ.. قال رجلٌ للأحنفِ بنِ قيسٍ: بِمَ سُدتَ قومَك -وأراد عيبَهُ-؟ فقال الأحنفُ: "بتركيِ من أمرك ما لا يعنيني، كما أَعْنَاكَ من أمري ما لا يَعْنِيْكَ". ذكره في المجالسة وجواهر العلم.
وبعد أيها الأخ المبارك: اعلم أن مما يُبْتلى به بعضُ الناسِ من الأمراضِ في أخلاقِهم صِفةُ الفُضُولِية وحُبُ الاستطلاعِ الْمُفْرِطِ في غيرِ موضِعِهِ المناسبِ شرعًا وعقلًا وذوقًا.!!. فترى من يتصفُ بهذا الخُلُقِ ينشغلُ بغيرِ ما يعنيه من أمورِ الناسِ: ماذا صنعَ فلانٌ، وماذا مع فلانٍ؟ وماذا يملكُ فلانٌ؟ وأين ذهب فلانٌ؟ ولماذا ما عملِ فلانُ كذا.؟ إلى آخر قائمة الفُضُولِية.!.. والفُضوليُ ناقصُ المروءةِ والذوقِ، ولا يحسبُ للحياءِ حِسابًا.. وهذا الخلقُ السيئُ يقودُ صاحبَه إلى أخلاقٍ سيئةٍ مثل الغيبةِ والنميمة وكثرة القيل والقال، وإضاعة الأوقات، والحسد والبغضاء والحقد.. وكم ضَيَّعَ هذا الخُلُقُ من مصالحٍ.. وأفسدَ من حياةٍ وأضرَّ بمجتمعٍ.. وعلى المسلمِ أنْ يشعُرَ بمسؤوليتِهِ تجاه تربيةِ نفْسِهِ.. ويبتعدَ عن الفضوليةِ والإفراطِ في حبِ الاستطلاعِ الذي يكون على حسابِ الخُلقِ والدينِ.؟!. فاللهمَّ ألْهِمْنا رُشْدَنا، وقنا شر أنفسنا، واغفر لنا ووالدينا أجمعين.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ بِهُدَاهُمْ اقْتَدَى. أَمَّا بَعْدُ: أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أن رأسَ مالِ العبدِ أوقاتُه فإذا صَرفَها فيما لا يَعْنِيهِ وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبَيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».. كَانَ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَأْتِي المَسْجِدَ، فَيَشهَدُ الصَّلَوَاتِ، وَالجُمُعَةَ، وَالجَنَائِزَ، وَيَعُوْدُ المَرْضَى، وَيَجْلِسُ فِي المَسْجِدِ، فَيَجتَمِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُه، ثُمَّ تَرَكَ الجُلُوْسَ، فَكَانَ يُصَلِّي وَيَنصَرِفُ، وَتَرَكَ شُهُوْدَ الجَنَائِزِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَالجُمُعَةَ، وَاحْتَمَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَكَانُوا أَرغَبَ مَا كَانُوا فِيْهِ، وَرُبَّمَا كُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَيَقُوْلُ: "لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِعُذْرِهِ".. ذكره الذّهبي رحمه الله في سِير أعلام النبلاء. وعلق على هذه المقولة أحد طلبة العلم فقال: "فتأمّل هذه الكلمة النَّفيسة من الإمامِ مالكٍ -رَحِمَهُ اللهُ- "لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِعُذْرِهِ" وإنّها لتَصْلُحُ أنْ تكونَ قاعدةً من قواعدِ التَّعامُلِ مع النّاس؛ وأَنَّه لا ينبَغِي الإلحاح في البحثِ عن أعذارِ النَّاسِ فيما يَأْتون ويترُكون.
فإذا سألتَ أخاك عن سببِ فعلِه لشّيءٍ، أو تركِه لأخر ثمَّ رأيتَه يحيدُ عن جوابِك، فلا ينبغي لك أن تُحرجَهُ وتُلحَّ عليه في معرفةِ عُذره؛ فذلك أمرٌ مستقبَحٌ، ورُبما أورثَ الضَّغِينَةَ بينكما.. رُيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا انْتَحَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ صَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى الْقَوْمِ، وَقَالَ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فِيمَا الْمَسْأَلَةُ عَمَّا غَيَّبَتِ الْجُدُرَات، وَالْحُجُبُ، وَالْأَسْتَارُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا ظَهَرَ إِنْ أُخْبِرَ، أَوْ لَمْ يُخْبَرْ.. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وأبو نعيم في الحلية..
ومن تحلَّى بهذا الخُلق فقد أخذ بأخلاق الأكابر.. بينما تجد طائفةً من النّاس ليس لهم همٌّ سوى الاشتغالُ بالنّاس، يفسّرون مقاصِدَهم، ويوجّهون أفعالَهم، بحسبِ ما تُمليه عليهم أهواؤهم.. فإذا عافاك اللهُ من هذه الحالِ فاحمدْ اللهَ فإنَّكَ على خيرٍ كثيرٍ". انتهى كتبه أ.د صالح البهلال.
وبعد أيها الإخوة: لنعوّدْ أنفسَنا على ألا نسألَ عمّا لا يعنينا.. وعلى ألا نتطلَّعَ إلى ما لا يَهُمُنا، وعلينا أن نتذكّرَ دائمًا قولَ النَّبَيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».. فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئ الأخلاق لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت.. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيْكُم كَمَا أَمَرَكُم رَبُّكُم بِقُولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]