من فضائل وأحكام عشر ذي الحجة

من فضائل وأحكام عشر ذي الحجة

الْـخُـطْبَةُ الْأُولَى

الحمد لله الذي جعَل أيامَ العشرِ من أفضل الأيام ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوسُ السلام ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ الخلق وسيدُ الأنام ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام ، أما بعد :-

فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ التَّقوَى ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرّ وَالنَّجوَى  .

عباد الله : إنَّ مِن رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعِبادِه أنْ مَنَّ عليهِم بأيامٍ مُبارَكةٍ ، يُضاعِفُ لهم فيها الأجرَ ، إنها أَيَّامُ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ ، فَهِيَ أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ مُبَارَكَةٌ ، أَعلَى اللَّهُ شَأنَهَا ، وَعَظَّمَ أَمْرَهَا ، فيها يتنافس المتنافسون ، ويتسابق إليها المتسابقون ، ويكفي في فضلها وكرمها أن الله أقسم بها وهو سبحانه لا يُقْسِمُ إلا بعظيم من خلقه ، قال تعالى : { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } . جَاءَ عَن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنّهَا عَشرُ ذِي الحِجَّةِ . وَهِيَ الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ الَّتِي أَخبَرَ اللَّهُ عَنهَا بِقَولِهِ : { لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ } . قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : أَيَّامُ العَشرِ . وكان سلفُنا الصالح يُعظِّمون هذه الأيام ويُقدِّرونها حقَّ قدْرِها ، قال أبو عثمان النهدي كما في لطائف المعارف : " كان السلف يُعظِّمون ثلاثَ عشرات : العشر الأخيرة من رمضان ، والعشر الأُوَل من ذي الحِجّة ، والعشر الأول من المحرم " . وقد كان السَّلف رحمهم الله يجتهدون في الأعمال الصَّالحة فيها ، « كان سعيد بن جُبَير رحمه الله إذا دخلت عشرُ ذي الحِجَّة اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يُقْدَرُ عليه » .

وَقَد خُصَّتْ هَذِهِ الأَيَّامُ العشر بِهَذِهِ الفَضَائِلِ لِاجتِمَاعِ أُمَّهَاتِ العِبَادَةِ فِيهَا ؛ مِن صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي غَيرِهَا .

وَقَد خَصَّ اللَّهُ هَذِهِ الأَيَّامَ بِأُجُورٍ كَبِيرَةٍ ، وَرَتّبَ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيهَا خَيرَاتٍ كَثِيرَةً ، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنهُ فِي غَيرِهَا ، جاء عند البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : « ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ . قالوا : يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ » . وفي رواية عند البخاري أيضاً : « ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذِه ؟ قالوا : ولَا الجِهَادُ ؟ قَالَ : ولَا الجِهَادُ ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ ومَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ » . وفي هذين الحَديثين يُرشِدُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى فَضْلِ العملِ الصَّالحِ في العَشْرِ الأوائلِ مِن ذي الحِجَّةِ ، ويُبيِّنُ أنَّ أجْرَ العَملِ الصَّالحِ فيها يَتضاعَفُ ما لا يَتضاعَفُ في سائرِ الأيَّامِ ، فعلَى المُسلِمِ أنْ يَغتَنِمَها ويُكثِرَ فيها الطاعاتِ ، ومِن أجَلِّ الطاعاتِ فيها ذِكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وأعظمُ الذِّكرِ قِراءةُ القُرآنِ فهو الهُدى والنُّور المبين ، ويَشملُ العَملُ الصالحُ الفَرائضَ والواجِباتِ وكلَّ أعْمالِ البِرِّ والمَعروفِ وأعمالَ التَّطوُّعِ مِن العِباداتِ ؛ مِن صَلاةٍ وصَدَقةٍ وصِيامٍ وبالأخصِّ صِيامُ يومِ عَرفةَ ؛ فكلُّ ما فُعِلَ مِن فرْضٍ في العَشرِ فهو أفْضلُ مِن فرْضٍ فُعِلَ في غيرِها ، وكذا النَّفْلُ في العَشرِ أفضلُ مِن النَّفْلِ في غيرِها ، كما يَشمَلُ أيضًا ترْكَ المنهيَّاتِ والمنكَراتِ ؛ فمَنْ ترَكَ المعصيةَ في هذه الأيَّامِ فلا شكَّ أنَّ أجْرَه أفضلُ مِن تَركِه للمَعصيةِ في غيرِها ، فإنها أيامٌ عظيمة ، وأيامٌ فاضلة ، وأيامٌ مباركة .

ومن فضل اللَّه وكرمه ، أن تنوَّعت فيها الطَّاعات ، فَمِمَّا يُشرَعُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الفَاضِلَةِ : كَثرَةُ الذِّكرِ مِنَ التَّهلِيلِ وَالتَّسبِيحِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ ، قال سبحانه : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } ، وفي مُسنَدِ أحمدَ وغيرِه : أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قال : « ما مِن أيَّامٍ أعظمُ عِندَ اللهِ ولا أحَبُّ إليه مِن العَملِ فيهنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشرِ ؛ فأَكْثِروا فيهِنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحْمِيد » . قال النَّوَوِي رحمه الله : « يُستحبُّ الإِكثارُ من الأذكار في هذه العَشْر زيادةً على غيرها ، ويُستحبُّ من ذلك في يوم عرفة أكثرُ من باقي العَشْر » ، وكذلك كثرة الاستغفار ، وقول :  " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " . وممَّا يُستحبُّ في العشر : صيامُ التِّسعة الأولى منها ، قال النَّوَوِي رحمه الله : « إنَّهُ مُستحبٌّ استحباباً شديداً » ، والصَّدقةُ فهي عملٌ صالحٌ ، بها تُفرَّج كروب وتزول أحزان ، وخير ما تكون في وقت الحاجة وشريف الزَّمان . فَاستَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَى اغتِنَامِ عَشرِكُم ، وَجِدُّوا وَاجتَهِدُوا ، فَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ ، يَنقَضِي تَعَبُهَا ، وَيَبقَى عَظِيمُ أَجرِهَا . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من البيان والذكرِ الحكيم ، أقولٌ قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

 

الخُطْبةُ الثَّانيةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى توفيقه وَاِمْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ :-

فمن الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة : التكبير المطلق وهو مشروع من دخول شهر ذي الحجة إلى نهاية اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة ، وصيغة التكبير :  " الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . أو يثلث : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد " . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم : « يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا » . ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ، ويرفع صوته به ، وعليه أن يحذر من التكبير الجماعي ؛ حيث لم يُنْقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف ، والسنة أن يكبر كل واحد بمفرده .

وقال ميمونُ بنُ مِهرانَ التابِعيُّ رحمه الله : ( أدْرَكْتُ الناسَ وإنَّهم لَيُكبِّرونَ في العشْر، حتى كنتُ أُشَبَّهُهُ بالأمواجِ مِن كثْرَتِها ) . وهذا التكبير مشروعٌ في حقِّ الرِّجال والنساء ، والصِّغارِ والكبار ، يُكبِّرونَ في البيوت ، وفي الأسواق ، وفي المساجد ، وفي المراكب ، وفي الطُّرقات ، وفي أماكن العمل ، وفي السَّفر والإقامة ، ويُكبِّرونَ وهُم جلوسٌ ، وحين يمشونَ ، وعلى فُرُشِهِم ، وفي سائر الأوقات مِن ليلِ أو نهار ، إلَّا إنَّهم لا يُكبِّرونَ بعدَ السلامِ مِن صلاة الفريضة ، لأنَّ التكبيرَ الذي يكونُ بعدَ صلاة الفريضة يسمى التكبير المقيد ، ويَبدأ وقتُه لِغيرِ الحُجَّاجِ : مِن فجْر يومِ عَرفة إلى صلاة العصر مِن آخِر أيـَّامِ التَّشريق ، ثم يُقطَع .

ويجبُ على منْ أرادَ الأضحيةَ قبلَ دخولِ هذِهِ الأيامِ ألاَّ يأخذَ منْ شعرِهِ ولا منْ أظفارِهِ ولا من بشرته شيئاً حتى يضحِيَ ، لما جاء في الصحيح من حديث أم سلمة أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : « إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا » ، وفي لفظٍ آخَر : « مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ » . ويَبدأ وقتُ النَّهيِّ عن الأخْذ : مِن غُروبِ شمسِ ليلة أوَّلِ يومٍ مِن أيَّام شهرِ ذي الحِجَّة ، ويَنتهي بذبحِ الأضحية ، سواء ذبَحَها المُضحِّي في يوم العيدِ أو اليومِ الأوَّلِ أو الثاني أو الثالث مِن أيَّام التشريق . والذي يَمْتَنِع هو المضحي – صاحب الأضحية – أما أهل البيت أو الوكيل فلا يَمْتَنِع . ومَن نَوى الأضحيةَ مُتأخِّرًا كمَن نواها في اليوم الثامنِ مِن ذي الحِجَّةِ مثلًا ، فوَقْتُ إمساكهِ عن الأخِذ مِن شَعره وجِلده وأظفاره يَبدأُ مِن حينِ حصلَتْ لَه هذه النِّيَّة . وفي ذلك تَشبُّهٌ بالمُحْرِمِ ، فكَما أنَّ المُحرِمَ بالحجِّ في ذلك الوقتِ لا يَأخُذُ شَيئًا مِنَ شَعرِه أوِ أظْفارِه ، فكَذلكَ غَيرُ المُحرِمِ له نَصيبٌ مِن شَعائرِ النُّسُكِ ، فَأَمَرَه ألَّا يَأخُذَ شَيئًا مِن شَعرِه وأَظفارِه ، فيَستشْعِرُ بذلك ما عليه المحْرِمون مِن أحوالٍ ، ويَتذَكَّرُ ما هُم فيه مِن رَحمةٍ ورِضوانٍ ، فَيسأَلُ اللهَ مِن فضْلِه ويَرْجو رَحمتَه ويَخْشى عَذابَه . هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، فقد قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا ) . اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين ، وعن سائرِ أصحابِ نبيك أجمعين ، وعن التابعين وتابع التابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين ، وأذلَّ الشركَ والمشركين ، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمين ، اللهم آمِنَّا في دُورنا ، وأصلح وُلاةَ أمورِنا ، اللهم وفقْ وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين وولي عهده لما تُحبُّ وترضى ، وهيِّئ لهم البطانةَ الصالحة ، اللهم احفظهم بحفظك وأعز بهم دينك ، اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين واجعلهم رحمة لشعوبهم . اللهم وفِّق شبابنا لما تحب وترضى ، واهدهم سبُلَ السلام ، وجنِّبهم الغلوَّ والمجون والآثام ، اللهم اغفِر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك ، اللهم فرِّجْ همَّ المهمومين من المسلمين ، ونفِّس كرْبَ المكروبين ، واقْضِ الدَّين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 25/11/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1747837395_من فضائل وأحكام عشر ذي الحجة.docx

المشاهدات 424 | التعليقات 0