من مخاطر اللسان
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
في كُلِّ صَباحٍ، هُناكَ حِوارٌ يَدورُ بينَ أَعضَاءِ الإنسانِ، لا نَسمَعُهُ ولكن نؤمنُ بِهِ أَشدَّ الإيمانِ، يَتَكلمُ فيهِ الأُذنُ واليَدُ والرِّجلُ والعَينانِ، فمَاذا يَقولُ الأعضاءُ كُلَّ يومٍ لِلِّسانِ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أصْبَحَ ابنُ آدَمَ، فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ –يَعني: تَخضعُ وتَذِلُّ له-، تَقولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فإنَّما نحنُ بِكَ؛ فإن اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا).
فَسُبحَانَ اللهِ .. اللِّسانُ أمرُه خَطيرٌ، وشَأنُه كَبيرٌ، بِكَلمةٍ وَاحدةٍ قَد يَرفَعُكَ إلى أعلى الجِنانِ، وتَنالُ رِضى الرَّحمنِ، وبِكَلمَةٍ واحدةٍ قَد يَهويِ بِكَ إلى قَاعِ النِّيرانِ، وتَنالُ سَخطَ الرَّحمنِ، يَقولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ)، فَلا إلهَ إلا اللهُ.
مِن مَخَاطِرِ اللِّسَانِ: الغِيبَةُ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:(ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟، قَالَ:(إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ) فالغيبةُ هو ذِكرُكَ لما في أخيكَ من الصِّفاتِ والأفعالِ والألقابِ مما يكرهُه في غيابِه، وأما إن لم يَكنْ فيه ما ذكرتَ، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)، والبُهتانُ: أشدُّ الكذبِ، وهذا أَكبرُ وأَعظمُ.
تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: قلتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -وأَشارتْ يَعْنِي قَصِيرَةً-، فاسمع ماذا قالَ عن هذه الإشارةِ التي قالتْها بسببِ الغَيرةِ بين الضَّرائرِ، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)، فلا إلهَ الإ اللهُ .. كلمةٌ لو خُلِطتْ بماءِ البحرِ لغيَّرتْ طعمَه ولونَه وريحَه، فماذا عسى أن يُقالَ فيما هو أعظمُ من ذلكَ من السُّخريةِ والهَمزِ، ومن العيبِ واللَّمزِ، ومن الطَّعنِ بالأحسابِ، والتنابزِ بالألقابِ.
ومِن مَخَأطِرِ اللِّسَانِ: النَمِيمَةُ .. فَهِيَ عظيمةٌ من العظائمِ، وهي في مَصافِّ كِبارِ الجرائمِ، يَقولُ عَطاءُ بنُ السَّائبِ: قَدِمتُ مِنْ مكَّةَ، فلقيني الشَّعبيُّ، فقالَ: يا أبا زيدٍ، أَطْرِفْنَا ممَّا سَمعتَ بمكَّةَ، فقلتُ: سمعتُ عبدَ الرَّحمنِ بنَ سَابطٍ يَقولُ: (لا يَسكنُ مكَّةَ سَافكُ دَمٍ، ولا آكلُ ربًا، ولا مشَّاءٍ بنميمةٍ)، فَعَجِبْتُ منه حِينَ عَدَلَ النَّمِيمَةَ بسَفكِ الدَّمِ وأَكلِ الرِّبا، فقالَ الشَّعبيُّ: (وما يُعْجِبُكَ من هذا؟، وهل يُسفكُ الدَّمُ وتُركبُ العظائمُ إلَّا بالنَّمِيمَةِ؟).
فيا أيُّها النَّمامُ: كيفَ يهنأُ لكَ منامٌ وأنتَ شرُّ الأنامِ؛ كما جاءَ في كلامِ نبيِّنا -عليه الصَّلاةُ والسّلامُ-؛ فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟)، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تعالى)، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟، الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
مِن مَخَاطِرِ اللِّسَانِ: كلماتٌ، ولكنَّهنَّ ليسَ كباقي الكلماتِ، لأنَّهنَّ قاتلاتٌ، تُسرعُ كالرِّيحِ، وتشتعلُ كالنَّارِ، كم هدمتْ من صداقةٍ ودارٍ، وكم فَرَّقتْ من قريبٍ وجارٍ، بسببِها يُتَّهمُ البريءُ، ويُكذَّبُ الصَّادقُ، ويُخوَّنُ الأمينُ، ويخافُ المجتمعُ بعدَ الاستقرارِ، وترتفعُ بعد انخفاضِها الأسعارُ، وتُهزمُ بها الجيوشُ، وتَسقطُ منها الدُّولُ، وكم كَانَ فِي تَصديقِها النَّدَمُ والحَسَراتُ، ولكن بعدَمَا قُضيَ الأمرُ وفاتَ، إنَّها الإشاعاتُ وما أدراكَ ما الإشاعاتُ.
فَالإشَاعَاتُ لها أثرٌ غريبٌ جبَّارٌ، بُها تَتَفَكَّكُ المُجتمعاتُ وتَنهارُ، وبها تتغيَّرُ المفاهيمُ والأفكارُ، فيا للهِ كم من كلمةٍ طُعنَ فيها الإسلامُ، وكُذِّبَ بها نبيٌّ، وشُوِّهَ بها حَسَنٌ، واتُّهمَ فيها بريءٌ، وقُطعتْ بها أرحامٌ، وهُزمَ بها جيشٌ، وأُخيفَ بها آمنونَ، وكُدِّرَ بها عَيشٌ، وأُزيلتْ بها نِعَمٌ، وأُسقطتْ بها دولٌ، وأريقتْ بها دماءٌ، ودمُّ عثمانَ بنِ عفانٍ رضيَ اللهُ عنه الخليفةِ الرَّاشدِ ذي النُّورينِ على ذلك شهيدٌ.
وإذا كنَّا قد أُمرنا بالتَّثبتِ في نقلِ خبرِ الفُسَّاقِ، كَمَا قالَ سبحانَه: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، فكيفَ بأخبارِ العَدوِّ الغَادِرِ، أو أخبارٍ مجهولةٍ المَصَادرِ؟، فانتبهوا من الكَلماتِ التي تُدارُ في المجالسِ وتُرسلُ في وسائلِ التَّواصلِ، وحافظوا على أمنِكم وبلادِكم من كلِّ سوءٍ.
اللهم اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأقوالِ والأفعالِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، اللهم طهرْ قلوبَنا من النفاقِ وأعينَنا من الخيانةِ وألسنتَنا من الكذبِ والمراءِ والجدالِ، اللهمَّ احفظ ألسنتَنا من الغيبةِ والنـّميمةِ والطعنِ والهمزِ واللمزِ والسبِّ والأذى والفاحشِ من القولِ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم اجعل ألسنتَنا حَرباً على أعدائك سِلماً لأوليائك، اللهم إنا نسألُك سكينةً في النفسِ وانشراحاً في الصدرِ، اللهم اجعلنا من الصالحينَ المصلحينَ ومن جندِك المخلصينَ، وانصر بنا الدينَ واجعل لنا لسانَ صدقٍ في الآخرينَ، اللهم آمنا في أوطانِنا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا وأيد بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرِنا وهيء له البطانةَ الصالحةَ التي تعينُه على الخيرِ، اللهم من أرادَ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ بسوءٍ فأشغله بنفسِه وردَّ كيدَه في نحرِه يا سميعَ الدعاءِ، اللهم احفظ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ من شرِّ الأشرارِ وكيدِ الفجار برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
المرفقات
1752031204_من مخاطر اللسان.docx
1752031214_من مخاطر اللسان.pdf