من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام٢ ( متضمنة الحديث عن العشر)

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/11/24 - 2025/05/22 20:22PM

من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام٢

الحمدُ للهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، صلّى الله عليه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أيّها النّاسُ اتّقوا اللهَ، فإنّكم إليه راجعون، وبعملِكم مُجازَون.

قال تعالى: ﴿وَاتَّقوا يَومًا تُرجَعونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ [البقرة: ٢٨١]

 


أمّا بعدُ:

أيّها الإخوةُ الكرامُ، فبما أنّنا لا نزالُ في أيّامِ الحجِّ هذه، فهذا يعني أنّنا لا نزالُ نتفيّأُ ظلالَ معالِمِ خليلِ اللهِ إبراهيمَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ،

الذي أرادَ اللهُ أن يجعلَه للناس إمامًا، ليُقتَدى به.

وأجلُّ معالِمِ هذهِ الشّخصيّةِ العظيمةِ، وأبرزُها، هي:

تحقيقُهُ لتوحيدِ اللهِ سبحانهُ لا شريكَ له.

كيف لا؟!

وهو الذي ارتبطَ اسمُهُ بتوحيدِ اللهِ عزّ وجلّ!

كيف لا؟!

وهو الذي وصفَهُ ربُّهُ بقوله: ﴿إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴾ [النحل: ١٢٠]، والحنيفُ هو المائلُ عنِ الشِّركِ.

فليس شيءٌ أعظمَ منَ اللهِ في قلبِ خليلِ اللهِ.

ولذلك هالَهُ ما رآهُ من قومِهِ، وهم يُشرِكونَ مع اللهِ غيرَهُ، فأنكرَ عليهم صنيعَهم، وبيّنَ لهم ضلالَ ما هم فيه، ودعاهم إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنّه هو المستحقُّ للعبادةِ دونَ سواهُ، وأنّ ما يدعونَ من دونهِ لا يملكونَ لأنفسِهم ضرًّا ولا نفعًا.

 


فنوّعَ لهمُ الأساليبَ والحُجَجَ والطُّرُقَ، التي بها أبانَ لهم عمّا كانوا فيه منَ الزيغِ والضّلالِ، فكان من خبرِهِ:

أن تحيّنَ يومَ خروجِهم إلى عيدٍ من أعيادِهم، فدخلَ إلى معبدِهم وقدَّمَ لآلهتِهم الطعامَ، فقال: ﴿أَلا تَأكُلونَ ۝ ما لَكُم لا تَنطِقونَ ۝ فَراغَ عَلَيهِم ضَربًا بِاليَمينِ﴾ [الصافات: ٩١-٩٣]

 


كسَّرَ هذهِ الأصنامَ، ليعلموا أنّها لا تستطيعُ أن تدفعَ عن نفسِها، فكيف عن غيرِها؟!

إلّا كبيرَهم تركَهُ حتى يُتمَّ عليهمُ الحُجّةَ، ويُوقِفَهم على حقارةِ عقولِهم، فلمّا دخلوا على آلهتِهم بعدَ رجوعِهم، ووجدوها محطّمةً: ﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِين * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾

 


وكان من خبرِه أيضًا مُخاطبتُهُ للنّجومِ، التي حكاهَا اللهُ عنه في سورةِ الأنعامِ:

﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأى كَوكَبًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ ۝ فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِن لَم يَهدِني رَبّي لَأَكونَنَّ مِنَ القَومِ الضّالّينَ ۝ فَلَمّا رَأَى الشَّمسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبّي هذا أَكبَرُ فَلَمّا أَفَلَت قالَ يا قَومِ إِنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ ۝ إِنّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرضَ حَنيفًا وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾ [الأنعام: ٧٦-٧٩]

 


وكلُّ ذلك في سياقِ مجادلتِه لقومِهِ، وإقامةِ الحُجّةِ عليهم، وإلّا فهو يعلمُ أن هذهِ الكواكبَ لا تصلحُ أن تُعبدَ من دونِ اللهِ، كما كان يعلمُ أن الأصنامَ لا تأكُلُ عندما قدَّمَ لها الطعامَ، ولكنّها قوّةُ الحُجّةِ التي منحَها اللهُ إيّاه على قومِهِ، ولذلك قال اللهُ بعدَها: ﴿وتلكَ حُجّتُنا آتَيناها إِبراهيمَ عَلى قَومِهِ﴾

 


إنَّ الإيمانَ الرّاسخَ والتّوحيدَ العظيمَ في قلبِ الخليلِ، تُرجِمَ إلى سلوكٍ عظيمٍ، تحلّى به إبراهيمُ.

فهو الحليمُ الأوّاهُ المُنيبُ المُتوكّلُ على ربِّهِ، لا يخشى غيرَه، ولا يرجو سِواهُ.

يتجلّى ذلك في المُلِمّاتِ والمَحكّاتِ التي مرّت عليه، فلمّا كاد له قومُهُ، انتصارًا لآلهتِهم؛ ورموهُ وقذفوهُ في النارِ، فوّض أمرَهُ إلى اللهِ قائلًا: حَسبيَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ!

فقال اللهُ للنارِ: ﴿يا نارُ كوني بَردًا وَسَلامًا عَلى إِبراهيمَ ﴾ [الأنبياء:٦٩].

وعن ابنِ عبّاسٍ قالَ: “كانَ آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ” [أخرجه البخاري]

 


أيّها الإخوةُ: إنَّ التّوحيدَ رأسُ الأمرِ، والحسنةُ التي إذا غابت لم تنفعْ كلُّ الحسناتِ، وإذا تحقّقت رُجيَ لصاحبِها الخيرُ والنّجاةُ ومغفرةُ السّيّئاتِ.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا﴾ [النساء: ٤٨]

من أجلِه بعثَ اللهُ الأنبياءَ والرّسلَ عليهمُ السّلامُ، وقامَ سوقُ الجنّةِ والنّارِ.

قال تعالى: ﴿وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ فَمِنهُم مَن هَدَى اللَّهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ فَسيروا فِي الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبينَ﴾ [النحل: ٣٦]

 


فيجبُ العنايةُ به أشدَّ العنايةِ، والخوفُ من كلِّ ما يُناقِضُهُ أو يقدحُ في كمالِهِ. ولنكن أضنَّ به من أنفسِنا وأموالِنا؛ لأنّه أحبُّ شيءٍ عندَ اللهِ، ونقيضُه أبغضُ شيءٍ عندَ اللهِ.

ولا تقل: أنا ضامنٌ لتوحيدي، وفي مأمنٍ منَ الشِّركِ، فإبراهيمُ عليه السّلامُ إمامُ الموحّدين، دعا ربَّهُ قائلًا:

﴿وَاجنُبني وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنامَ ۝ رَبِّ إِنَّهُنَّ أضلَلنَ كَثيرًا مِنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنّي وَمَن عَصاني فَإِنَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٥-٣٦]

 


أيّها السّادةُ الكرامُ، إنَّ هذا المَعلَمَ في شخصيّةِ أبينا إبراهيمَ عليه السّلامُ، وهو توحيدُ اللهِ، أحدُ مقاصدِ الحجِّ العظيمةِ التي يُريدُ اللهُ لنا أن نتعلّمَها ونُقيمَها في أنفسِنا ونُحاسبَ أنفسَنا تجاهَها.

 


فالتّكبيرُ في أيّامِ الحجِّ يُذكّركَ بالتّوحيدِ، والتّلبيَةُ تُذكّركَ بالتّوحيدِ، والذّبحُ والنّحرُ للهِ من أعظمِ شعائرِ التّوحيدِ، وكذلك الطّوافُ والسّعيُ ببيتِهِ.

 


لا يستقيمُ أبدًا أن نُكبّرَ ونُلبّيَ وننحرَ ونذبحَ ونطوفَ ونسعى للهِ، ولا نزالُ نتوجّهُ بالخوفِ والرّجاءِ والحبِّ والدّعاءِ والسّؤالِ إلى غيرِ اللهِ، إلى من لا يملكُ لنفسِهِ حولًا ولا قوّةً، فضلًا عن غيرِه، فنكونَ بهذا -والعياذُ باللهِ- كمن خشيَ الضّعيفَ وتركَ القويَّ، ورجا البخيلَ وتركَ الكريمَ، وسألَ العاجزَ وتركَ القادرَ، فأيُّ خذلانٍ أشدُّ من هذا؟!

وصدقَ اللهُ: ﴿لا تَجعَل مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقعُدَ مَذمومًا مَخذولًا﴾ [الإسراء: ٢٢]

 


إنَّ التّكبيرَ يُعلّمُنا ونحنُ نُردّدهُ أنّه لا ينبغي أن يكونَ كبيرٌ في قلوبِنا إلّا الله!

اللهُ أكبرُ من كلِّ أحدٍ…

اللهُ أكبرُ من كلِّ عظيمٍ، عَظُمَ في نفوسِنا…

اللهُ أكبرُ من شهواتِنا…

اللهُ أكبرُ من دنيا نتكالبُ عليها…

إذا حقّقنا هذهِ الكلمةَ كما ينبغي، وكان اللهُ أكبرَ حقيقةً في نفوسِنا، كنّا بحقٍّ أبناءَ إبراهيمَ وأتباعَه.

 


أقولُ قولي هذا

 


الثانية:

 


وبعدُ:

 


أيّها النّاس، هذهِ الجُمعةُ هي آخرُ جُمعةٍ قبلَ عشرِ ذي الحجّة، وما أدراكم ما عشرُ ذي الحجّة؟!

 


الأيّامُ التي أقسَمَ اللهُ بها، وتختلفُ فيها معاييرُ العملِ وموازينُه، فليسَ العملُ الصّالحُ فيها كالعَملِ في غيرِها، فحريٌّ بهذهِ الأيّامِ كلُّ اجتهادٍ وتشميرٍ.

 


قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيّامٍ، العملُ الصّالحُ فيهنّ أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيّامِ العشرِ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلّا رجلٌ خرج بنفسِه ومالِه، فلم يَرجِعْ من ذلك بشيءٍ» [أخرجه البخاري].

 


وتذكّروا أنَّ من أرادَ الأضحيَة، فيجبُ عليهِ بدخولِها، أن لا يأخذَ من شَعرِه، ولا بَشَرِه، ولا ظُفرِه.

 


قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دخَلَ العشرُ الأوَلُ، فأرادَ أحدُكم أن يُضحِّي، فلا يَمَسَّ من شعرِه، ولا من بشرِه شيئًا» [أخرجه مسلم].

 


ثم صلُّوا وسلِّموا ..

المرفقات

1747934451_‎⁨معالم شخصية إبراهيم٢⁩.docx

المشاهدات 306 | التعليقات 0