من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام٣ ( الولاء والبراء)

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/12/22 - 2025/06/18 23:24PM

من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام٣

( الولاء والبراء)

الحمدُ للهِ وَلِيِّ المؤمنينَ، وعَدُوِّ الكافرينَ، مَن جَعَلَ أوثَقَ عُرَى الإيمانِ: الحُبَّ فيهِ والبُغضَ فيهِ.

والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، مَنِ اتَّخَذَ مِنَ المؤمنينَ وَلِيًّا، ومِنَ الكافرينَ عَدُوًّا، فجَاهَدَ على ذلكَ حتّى أتاهُ اليقينُ.

 


أيُّها الناسُ، عليكم بتقوى اللهِ، فهي السبيلُ للعِزَّةِ والكرامةِ، والحياةِ الطيِّبةِ، قالَ تعالى:

﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [الأعراف: ٩٦].

 


أمّا بعدُ:

 


أيُّها الإخوةُ، فبِما أنَّ لشهرِ ذي الحِجَّةِ بَقيَّةً، فكذلكَ لذِكرى أبينا إبراهيمَ -عليهِ السّلامُ- التي ابتدأناها بَقيَّةٌ لم تنتهِ بعدُ.

 


كُنَّا قد تَحدَّثنا عن توحيدِ إبراهيمَ لربِّهِ، وخُلوصِهِ منَ الشِّركِ، وكذلكَ عن انقيادِهِ واستسلامِهِ لأمرِ ربِّهِ.

واليومَ نُضيفُ معْلَمًا من معالِمِ شخصيَّةِ خليلِ اللهِ -عليهِ السّلامُ-، الواضحِ والبارزِ في القرآنِ، الّذي نستلهمُ منهُ الدروسَ والعِبَرَ، ونتأسّى بهِ، ألا وهو: “وَلاؤُهُ وبَراؤُهُ في ذاتِ اللهِ”.

 


كانت مشاعرُ إبراهيمَ -عليهِ السّلامُ- من حُبٍّ وبُغضٍ، وولاءٍ وبَراءٍ، مرتبطةً بربِّهِ ومَولاهُ؛ فهو يُحبُّ ما يُحبُّهُ اللهُ، ويَبغضُ ما يَبغضُهُ اللهُ.

 


فأحبابُهُ همُ المؤمنونَ الموحِّدونَ ولو كانوا بُعَداءَ، وأعداؤُهُ همُ المشركونَ المُحادُّونَ والمُعانِدونَ للهِ، ولو كانوا قُرباءَ.

 


وهذا المعْلَمُ في شخصيَّتِهِ، نَوَّهَ بهِ القرآنُ، وأبرَزَهُ، ودعا أُمَّةَ محمَّدٍ -عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ- التي نَزَلَ عليها القرآنُ، أن تَقتديَ بهِ في ذلكَ وتَتَأسَّى بهِ.

 


قالَ تعالى:

﴿قَد كانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهيمَ وَالَّذينَ مَعَهُ إِذ قالوا لِقَومِهِم إِنّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ كَفَرنا بِكُم وَبَدا بَينَنا وَبَينَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغضاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤمِنوا بِاللَّهِ وَحدَهُ إِلّا قَولَ إِبراهيمَ لِأَبيهِ لَأَستَغفِرَنَّ لَكَ وَما أَملِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيءٍ رَبَّنا عَلَيكَ تَوَكَّلنا وَإِلَيكَ أَنَبنا وَإِلَيكَ المَصيرُ﴾ [الممتحنة: ٤].

 


وقال تعالى:

﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ لِأَبيهِ وَقَومِهِ إِنَّني بَراءٌ مِمّا تَعبُدونَ ۝ إِلَّا الَّذي فَطَرَني فَإِنَّهُ سَيَهدينِ ۝ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهُم يَرجِعونَ﴾ [الزخرف: ٢٦-٢٨].

 


وتَجلّى ذلكَ الولاءُ والبَراءُ عندَ إبراهيمَ -عليهِ السّلامُ-، في ثنايا وتفاصيلِ قصَّتِهِ في القرآنِ الكريمِ.

 


فإذا جادَلَ وخاصَمَ -عليهِ السّلامُ-، فإنما يُجادلُ في ذاتِ اللهِ، لا يُجادلُ من أجلِ مصالحَ دنيويَّةٍ، أو روابطَ أرضيَّةٍ.

فهوَ الّذي جادَلَ قومَهُ، وحاجَّهُم في شِركِهِم، حتّى بَيَّنَ لهم سخافةَ عُقولِهِم، وأوقَفَهُم على بُطلانِ آلهتِهِم، فنالَهُ بسببِ ذلكَ ما نالَهُ من غضبِهِم وانتقامِهِم، غيرَ آبهٍ ولا هَيّابٍ.

 


وهوَ الّذي جادَلَ المَلِكَ الّذي ادّعى الألوهيَّةَ، فغَلَبَهُ بحُجّتِهِ، وانتصرَ للهِ الواحدِ القهّارِ.

 


قال اللهُ تعالى:

﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذي حاجَّ إِبراهيمَ في رَبِّهِ أَن آتاهُ اللَّهُ المُلكَ إِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّيَ الَّذي يُحيي وَيُميتُ قالَ أَنا أُحيي وَأُميتُ قالَ إِبراهيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِها مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].

 


كيفَ لا يُجادلُهُ إبراهيمُ -رغمَ سَطوةِ الملكِ وشِدّتِهِ- وقد تَطاولَ على مقامِ الألوهيَّةِ، الّتي لا تكونُ إلّا للهِ، الّذي لا إلهَ إلّا هو؟!

 


وكما جادَلَ قومَهُ وخاصَمَهُم في ذاتِ اللهِ، فكذلكَ فارقَهُم في ذاتِ اللهِ، وهاجَرَ إلى ربِّهِ، مُفارِقًا بذلكَ البلدَ التي وُلِدَ ونشَأَ فيها.

 


فهوَ القائلُ -كما حَكى اللهُ عنهُ-:

﴿وَأَعتَزِلُكُم وَما تَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ وَأَدعو رَبّي عَسى أَلّا أَكونَ بِدُعاءِ رَبّي شَقِيًّا ۝ فَلَمَّا اعتَزَلَهُم وَما يَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ وَهَبنا لَهُ إِسحاقَ وَيَعقوبَ وَكُلًّا جَعَلنا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٤٨-٤٩].

 


وقال عنهُ أيضًا:

﴿فَآمَنَ لَهُ لوطٌ وَقالَ إِنّي مُهاجِرٌ إِلى رَبّي إِنَّهُ هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [العنكبوت: ٢٦].

 


وكما كانَ بَراؤُهُ منَ المشركينَ، فقد كانَ وَلاؤُهُ للمؤمنينَ، وتَجَلّى ذلكَ أيضًا في ثَنايا قِصَّتِهِ في القرآنِ.

 


فهوَ الّذي جادَلَ الملائكةَ في لوطٍ وأهلِ بيتِهِ، لمّا أَخبَرَتهُ الملائكةُ بعذابِ اللهِ لقومِ لوطٍ، خَوفًا أن يُصيبَهُم العذابُ:

﴿قالَ إِنَّ فيها لوطًا قالوا نَحنُ أَعلَمُ بِمَن فيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهلَهُ إِلَّا امرَأَتَهُ كانَت مِنَ الغابِرينَ﴾ [العنكبوت: ٣٢].

 


وهوَ الّذي دَعَا لكلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ حتّى قيامِ السّاعةِ:

﴿رَبَّنَا اغفِر لي وَلِوالِدَيَّ وَلِلمُؤمِنينَ يَومَ يَقومُ الحِسابُ﴾ [إبراهيم: ٤١].

 


كذلكَ كانَ إبراهيمُ -عليهِ السّلامُ-، وكذلكَ ينبغي أن يكونَ حالُ كلِّ مسلمٍ إلى قيامِ السّاعةِ.

يُحبُّ ما يُحبُّهُ اللهُ، ويَبغضُ ما يَبغضُهُ اللهُ، فأعداؤُهُ هم أعداءُ اللهِ ورسولِهِ وشريعتِهِ، وأحبابُهُ هم أولياءُ اللهِ ورسولِهِ وشريعتِهِ.

 


لا يُقدِّمُ المسلمُ حقًّا، على حُبِّ اللهِ ورسولِهِ شيئًا، لا عِرقًا، ولا جِنسًا، ولا جماعةً، ولا مذهبًا، ولا أي كِيانٍ كائناً ما كان.

 


كلُّ شيءٍ عندَ المسلمِ حقًّا، دونَ حُبِّ اللهِ وشريعتِهِ، فهيَ المِعيارُ الّتي يُوازِنُ بها حُبَّهُ وبُغضَهُ.

فمَن كانَ للهِ أقربَ، كانَ حُبُّ المسلمِ لهُ أقربَ، ومَن كانَ عنِ اللهِ أبعَدَ، كانَ حُبُّ المسلمِ لهُ أبعَدَ.

 


باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ …

 


الثانية:

 


وبعدُ،

 


إخوةَ الإسلامِ، هجرةُ نبيِّنا محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، والتي نتهيَّأُ لِنعيشَ ذِكرَاها، لهي مظهرٌ عظيمٌ من مظاهرِ الحُبِّ في اللهِ، والبُغضِ في اللهِ، والوَلاءِ للمؤمنينَ، والبَراءةِ من الكافرينَ.

وستبقى كذلكَ منارةً دالَّةً على إرادةِ اللهِ لهذه الأمَّةِ أن تَبقَى مُتمايِزَةً عن غيرِها؛ في عقيدتِها، ووَلائها، وتاريخِها، ونظامِها، وشريعتِها، وأخلاقِها.

 


لقد تَرَكَ النبيُّ -عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ- ومَن معهُ منَ المُهاجرينَ، مكّةَ التي أحبّوها، ونَشَؤوا فيها، وارتبطتْ بها مشاعرُهم وذِكرياتُهم،

ليَضرِبوا بذلكَ مثالًا لكلِّ مؤمنٍ، بأنَّ الوَلاءَ لا يكونُ للأرضِ، ولا للعِرقِ والقبيلةِ، وإنَّما هو للهِ ورسولِهِ ودينِهِ.

 


لقد حدَّدَ النبيُّ -عليهِ السّلامُ- ومَن معهُ منَ المُهاجرينَ والأنصارِ، مواقفَهم منَ الناسِ: حُبًّا وبُغضًا، ووَلاءً وبَراءً، من خلالِ الحقِّ وميزانِهِ، ولم يُحدِّدوا موقفَهم منَ الحقِّ من خلالِ مواقفِ الناسِ.

فمن حدَّدَ موقفَهُ منَ الحقِّ من خلالِ الناسِ، ضَلَّ بضلالِهِم. ومن حدَّدَ موقفَهُ منَ الحقِّ من خلالِ الحقِّ ودلائلِه؛ رَشَدَ واهتدى، ولم يَضُرَّهُ ضلالُ الناسِ وزيغُهُم.

 


ولنَعلَمْ -أيُّها الإخوةُ- أنَّ مشاعرَ الحُبِّ والبُغضِ، من خصائصِ النفسِ البشريَّةِ، ولا يَنفكُّ الإنسانُ عنها، وهي مرتبطةٌ بما يَعْظُمُ في قلبِ الإنسانِ من عقائدَ ومذاهبَ وأشخاصٍ ونحوِها.

فيجدُ الإنسانُ نفسَهُ بفطرتِهِ يُحبُّ مَن يُوافِقُهُ في وَلائِهِ لِمَن يُعظِّمُ، ويَبغضُ مَن يَمسُّ هذهِ المُعظَّماتِ بسوءٍ، هكذا، بدونِ تَكلُّفٍ ولا تَصنُّعٍ.

 


فبناءً عليهِ، فليسَ الوَلاءُ والبَراءُ أمرًا بالبَغضاءِ كما يَفهَمُ البعضُ، بل هوَ توجيهٌ لِما هوَ موجودٌ أصلًا من مشاعرَ، لِتَتَسامى عن أنْ تكونَ مرتبطةً بقِيَمٍ أرضيَّةٍ، أو مصالحَ دنيويَّةٍ، أو اهتماماتٍ دنيَّةٍ، بل لِتَرتبطَ بأعظمِ شيءٍ في الوجودِ، وهوَ اللهُ، وما أَنزَلَ من شَرعٍ ودِينٍ.

 


فهذا ثُمامةُ -سيِّدُ أهلِ اليمامةِ-، لمّا وقعَ في الأسرِ، وتَسنَّى لهُ سماعُ القرآنِ، فبمجرَّدِ ما دخلَ الإيمانُ في قلبِه، تغيَّرَت كلُّ مشاعرِه تَبَعًا لإيمانِه، دونَ تكلُّفٍ ولا تَصنُّعٍ،

فقالَ بعدَ أن أعلَنَ إسلامَهُ:

“يا محمدُ، واللهِ ما كانَ على الأرضِ وجهٌ أبغَضَ إليَّ من وجهِكَ، فقدْ أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوجوهِ إليَّ،

واللهِ ما كانَ من دِينٍ أبغضَ إليَّ من دينِكَ، فأصبحَ دينُكَ أحبَّ الدِّينِ إليَّ،

واللهِ ما كانَ من بلدٍ أبغضَ إليَّ من بلدِكَ، فأصبحَ بلدُكَ أحبَّ البلادِ إليَّ”.

[أخرجه البخاري]

 


ولذلكَ صحَّ أن يُجعَلَ الحُبُّ والبُغضُ في اللهِ من معاييرِ معرفةِ الإيمانِ.

 


فانظُرْ لِبواعِثِ الحُبِّ والبُغضِ، والفَرَحِ والغَضَبِ في داخِلِكَ، ما الذي يَجعلكَ تَهبُ غاضبًا، ومُجادِلًا، ومُخاصِمًا،

أو فَرِحًا جذِلا مسرورًا، أو مُحبًّا ومُوالِيًا ومُوافِقًا؟ فهوَ العظيمُ في نَفسِكَ، وإن ادّعيتَ غيرَهُ.

 


فإن كانَ غيرَ اللهِ وشرعِهِ، وما يحتويهِ من قِيَمٍ وأخلاقٍ ومبادئَ عُليا، فَعليكَ أن تُراجِعَ نَفسَكَ، وتُعيدَ مَوازينَ الحُبِّ والبُغضِ في داخِلِكَ.

 


فلذلكَ لا تجدُ المؤمنَ إلّا ودوافعَ الحُبِّ والبُغضِ، والفَرَحِ والحُزنِ، لديهِ، مرتبطةً بالدِّينِ وأهلِه؛

فيُفرِحُهُ عُلوُّ الدِّينِ وأهلِهِ، ويَحزنُهُ ما يَسوءُهم ويَضُرُّهم.

 


ولا تَجدُهُ أبدًا، مُحبًّا للكافرينَ والمُنافقينَ والمُجرمينَ، مُجادِلًا عنهم، ومُتولِّيًا لهم،

مُمتَثِلًا بذلكَ قولَهُ تعالى:

﴿وَلا تُجادِل عَنِ الَّذينَ يَختانونَ أَنفُسَهُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ خَوّانًا أَثيمًا﴾ [النساء: ١٠٧].

 


وصدقَ اللهُ، إذ جعلَ الحُبَّ والبُغضَ مِعيارًا للإيمانِ، ودالًّا عليهِ، إذ قالَ:

﴿لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوادّونَ مَن حادَّ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَلَو كانوا آباءَهُم أَو أَبناءَهُم أَو إِخوانَهُم أَو عَشيرَتَهُم أُولئِكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ أُولئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحونَ﴾ [المجادلة: ٢٢].

 


هذا، وصلُّوا وسلِّموا

المرفقات

1750278253_‎⁨من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام٣⁩.docx

المشاهدات 133 | التعليقات 0