موت العلماء (رحيل خطيب عرفة)
الشيخ محمد الوجيه
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
يا أيها المسلمون، إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش في زمن تتلاطم فيه أمواج الفتن كالبحر الهائج، وتتوالى فيه المصائب كغيث من الهموم، وتزداد فيه غربة الإسلام والمسلمين. وفي خضم هذه الأحداث، نفجع في كل يوم برحيل كوكب من علمائنا الربانيين، الذين قضوا أعمارهم في خدمة دين الله، ونشر العلم، وإرشاد الناس إلى الحق. إن موت العالم ليس موت فرد من أفراد المجتمع فحسب، بل هو ثلمة في جدار الإسلام، ومصيبة تحل بالأمة بأسرها، وفجيعة لا تعوض. هو كفقد البصر في ليل حالك، وفقد السلاح في معركة مصيرية، وفقد البوصلة في زمن الفتنة. إنه ليس مجرد غياب جسد، بل هو غياب نور، وطمس لمشعل كان يضيء دروب الحائرين.
وإن من أبرز من فقدناهم في يوم الثلاثاء فضيلة الشيخ المفتي عبدالعزيز آل الشيخ، حفيد الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، سليل العلم والدعوة، الذي كان جبلًا من جبال العلم، وقدوة في زهده وورعه وتواضعه. لقد كان عالمًا عابدًا زاهدًا، يشهد له بذلك كل من عرفه. لقد حفظ القرآن كاملاً وعمره عشر سنوات، وتتلمذ على أكابر العلماء أمثال المفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والمفتي السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، والشيخ الشتري وغيرهم. وقد ابتلي بفقد بصره في العشرينيات من عمره فصبر صبر الأولياء الصالحين رحمه الله رحمة الأبرار.
ولم يكن علمه حبيس الكتب والمجالس، بل كان ممتزجًا بقلب رحيم وروح شفافة. فقد كان -رحمه الله- صاحب أخلاق رحيمة، وبشاشة لا تفارق محياه، تلامس قلوب الناس برفق وعطف. كان يهتم بالعلماء ويشجعهم على مشاريعهم العلمية، وكأنه يرى في كل عالم مشعلًا جديدًا يضيء للأمة طريقها. لقد كان حقًا خطيب العلماء وعالم الخطباء، وكيف لا وهو الذي وقف خطيبًا في يوم عرفة لأكثر من خمسة وثلاثين عامًا، موجهًا الأمة بأسرها، ومبينًا لهم طريق الهدى في هذا اليوم العظيم.
ومع هذا العطاء الكبير، كان عابداً خفياً لا يراه الناس، فقد كان صاحب عبادة وقيام لليل، يختم المصحف في كل ثلاثة أيام، وكأن نهاره للعلم والناس، وليله لربه وقيام بين يديه.
رحم الإله سماحة المفتي
العالم المعروف بالسمت
قضى الحياة على الهدى الثَّبْتِ
ومحارب الطاغوت والجبت
إخوة الإيمان، إن العلماء هم من يحملون على عواتقهم أمانة كالجبال، أمانة تبليغ رسالة الله، وتفسير كتابه العزيز، وبيان سنة نبيه الكريم، وهداية الناس إلى الصراط المستقيم. إنهم حصون الأمة المنيعة في وجه الجهل والظلمات، وهم منارات الحق في زمن تتقلب فيه القلوب كقدر يغلي، ويواجهون الباطل بالحجة والبرهان.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". إن هذا الحديث الشريف يحذرنا من عاقبة التفريط في العلماء، ويؤكد أن بقاء العلم مرتبط ببقاء أهله.
إن العلم الحقيقي لا يزول بزوال أوراق الكتب، ولكنه يزول بموت العلماء الحاملين له في صدورهم، المتمسكين به في سلوكهم، الذين يجسدون الدين في أخلاقهم ومعاملاتهم. فإذا مات العالم، ترك فراغًا كالمحيط لا يسده إلا من سار على دربه واقتفى أثره.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا نفعل بعد وفاة العالم؟
إن أول ما يجب علينا فعله هو التمسك بما تركه لنا من علم، فكتبه ومحاضراته ودروسه وفتاواه هي ميراث عظيم يجب علينا أن نحافظ عليه وننشره. فكل كلمة، وكل درس، وكل فتوى هي صدقة جارية، وكنز ثمين تركه لنا لننتفع به.
وثانيًا، يجب علينا توقير العلم بعد وفاة أهله، وذلك بالحرص على نشره والعمل به، وأن نكون خير خلف لخير سلف. فإحياء علمهم هو إحياء لذكراهم، ونشر علمهم هو إتمام لمسيرتهم، والعمل به هو توقير لمكانتهم.
وثالثًا، يجب علينا الدعاء للعلماء الذين رحلوا، وأن نطلب لهم المغفرة والرحمة، وأن يجزيهم الله خير الجزاء على ما قدموه للإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون، إن الموت حقيقة لا مفر منها، والعلماء قدوة حسنة لنا في الاستعداد للآخرة. لذا، فلنغتنم حياتنا في طلب العلم الشرعي، ولنجتهد في تحصيله من مصادره الموثوقة.
ختامًا، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والاستقامة على دينه، والتمسك بالقرآن والسنة، فإن فيهما النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.