ميراث المرأة بين الجاهلية والإسلام
د. محمود بن أحمد الدوسري
ميراث المرأة بين الجاهلية والإسلام
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, مَنْ يهده الله فلا مضل له, ومَنْ يُضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ أما بعد: عباد الله … لعل من أكثر المداخل التي يُحاول أعداء الإسلام الانقضاض عليه منه, والتَّشنيع عليه بسببه هو نصيب المرأة من الميراث, وفي هذا ظلم عظيم وإجحاف شديد للإسلام, فالإسلام إنما ردَّ للمرأة كرامَتَها وأعاد لها حقَّها في الميراث, الذي ظلَّ مسلوباً طيلة قرونٍ يصعب علينا عدُّها وحصرها؛ حيث حَرَمتْها الحضارات القديمة قاطبة من الميراث, كما حَرَمتْها العادات والتَّقاليد القَبَلية كذلك, وهكذا اشْتركا سَوِيًّا (النِّظام الحضاري المدني, والنِّظام البدائي القَبَلي) وتواطآ على سلب حقِّ المرأة وحِرمانها من الميراث, وكأنَّها كائن لا قيمة له!
عباد الله.. إنَّ قضيَّة الإرث وتوريث ما يتركه المتوفَّى لمن بعده - من أموالٍ وأملاكٍ وأراضٍ وعقاراتٍ وغيرها - هي من أقدم القضايا التي تتعلَّق بالعادات والتَّقاليد والسُّنن المتوارثة في حياة المجتمعات الإنسانيَّة، ولقد كانت معظم الحضارات القديمة تخصُّ بالإرث الرِّجال الأقوياء الذين يُقاتلون ويُدافعون عن الأرض ويحمون أهل العشيرة من الأعداء؛ لذا توارثت هذه الحضارات هذه العادة السَّيِّئة في حرمان النِّساء والضُّعفاء والذُّكور الصِّغار الذين لا يشاركون في المعارك لصغر سنِّهم.
وبناءً على هذا الاعتقاد حرموا المرأة من الإرث؛ بسبب عجزها عن المشاركة في الدِّفاع عن القبيلة كما هو حال الرَّجل، ومن جهة أخرى كان سبب حرمانها من الإرث خشية انتقال المال - بزواج البنت - من بيت أبيها وأخيها وابنها إلى بيت زوجها.
أيها المسلمون.. تَوَاصَلَ ظلم المرأة في قضيَّة الإرث حتى وصل إلى العرب في الجاهليَّة قبل الإسلام فكانوا يتوارثون أموالهم بالوصيَّة لعظماء القبائل ومَنْ تجمعهم بهم صلات الحِلْف [التَّوريث بالحِلْف: هو أن يرغب رجلان في الخُلَّة بينهما فيتعاقدا على أنَّ دمهما واحد ويتوارثا]، ومَنْ لم يوصِ تُصرف أمواله لأبنائه الذُّكور دون الإناث [فإن لم يكن للمتوفَّى أبناء ذكور، وَرِثَ منه أقرب العصبة: كالأب، ثم الأخ، ثم العم وهكذا، وكانوا يُوَرِّثون بالتَّبنِّي، فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأُبوَّة]؛ لأنَّ فلسفة الإرث لديهم قائمة على إعطاء المال لمن طاعَنَ بالرُّمح، وَضَرَب بالسَّيف.
وأمَّا الزَّوجات فَكُنَّ موروثات لا وارثات؛ لأنَّ الزَّوجة لا تُدافع عن القبيلة، ولا تغزو، ولا تَحوز الغنائم من جهة، ومن جهة أخرى أنَّ المال الذي سترثه سيذهب إلى الرَّجل الغريب الذي ستتزوَّجه؛ لذا كانوا يَحْرِمونها من الميراث ومن سائر الحقوق الماليَّة؛ كالمهر والوصيَّة، ونحوِهما.
وقد ندَّد القرآن بهذا الظُلم الواقع على المرأة في قضية إرثها أو كونها متاعاً يوَرَّث، بل وقطع بصريح العبارة بحرمته، فردَّ بذلك إلى المرأة كرامتها، ومن ذلك:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]. قَالَ ابن عَبَّاس رضي الله عنهما: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإنْ شَاؤُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاؤُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ذَلِكَ» رواه البخاري.
2- قوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما: «وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ، فَيَعْضُلُهَا، حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا، فَأَحْكَمَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ [أي: مَنَعَ اللهُ تعالى عن ذلك الفعل المشين، مِنْ أَحْكَمْتَه؛ أي: مَنَعْتَه]، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ» حسن صحيح – رواه أبو داود. وفي روايةٍ: «فَوَعَظَ اللهُ ذَلِكَ [المراد بالوعظ هنا: هو النَّهي؛ أي: نَهَى اللهُ تعالى عن ذلك الفعل الجاهلي]» صحيح – رواه أبو داود.
معشر الفضلاء.. وفي ظلِّ ذاك الواقع الجاهلي المُتوارث عبر القرون الطَّويلة كان عسير أن يتم تغيير جذري في نظام الإرث عموماً، وفي إشراك المرأة فيه خصوصاً؛ ولا سيَّما في مكَّة - قبل الهجرة - لتعذُّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سُكَّانها آنذاك.
ثمَّ لمَّا هاجر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكَّة صار التَّوريث: بالهجرة، فالمهاجرُ يَرِثُ المهاجرَ، وبالحِلْف، وبالمُعاقدة، وبالأُخوَّة التي آخاها الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرِين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]. وشَرَعَ اللهُ وجوبَ الوصيَّة للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالَد المسلمون ولَحِقَ بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقَرابة، وجعل للنِّساء حظوظاً في ذلك فأتمَّ الكلمة، وأسبغَ النِّعمة، وأومأ إلى أنَّ حكمة الميراث صَرْفُ المالِ إلى القرابة بالولادة وما دونها.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام الأتمان على مَنْ لا نبي بعده: عباد الله.. ظلَّت المرأة محرومةً من الميراث دهوراً متعاقبة حتى جاء الإسلام وقَلَب مقاييس الحياة رأساً على عقب، فكسر الطَّوق المألوف، وفَكَّ عن المرأة حصار الحرمات، وأقرَّ حَقَّها بالإرث من والديها ومن أقاربها، فأصبح الإرث نظاماً اجتماعيّاً تشريعيّاً بقرارٍ إلهي، يشترك فيه الذُّكور والإناث، والضُّعفاء والأقوياء، والكبار والصِّغار، ونزلت أوَّلُ آيةٍ تُبيِّن أنَّ للنِّساء نصيباً في الميراث، وهي قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7].
فأفرد الله تعالى ذِكْرَ النِّساء بعد ذِكْرِ الرِّجال، ولم يقل: للرِّجال والنِّساء نصيب؛ لئلاَّ يُستهان بأصالتهنَّ في هذا الحُكْم، وهذا الحقُّ للنِّساء ثابت، ولو كان قليلاً مُحتقراً؛ حتى لا يُبْخَس حقُّهنَّ في الميراث، فقال سبحانه: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}.
ثم قال سبحانه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} فلا بدَّ من وجود فارِضٍ، ومفروضٍ عليه، فالذي فَرَضه هو الله تعالى مالِكُ المُلك يؤتي ملكه مَنْ يشاء، وما دام أنَّه نصيبٌ مفروض، فلا بدَّ من أن يكون له قَدر معلوم، ويتمُّ إيضاحه؛ فنزلت بعد ذلك الآيات التي تُوَضِّح وتُبيِّن هذا النَّصيب المفروض، ولا سيَّما في جانب نصيب المرأة المحرومة، أُمَّاً كانت، أو زوجةً، أو بنتاً، أو أختاً.
* فبيَّن سبحانه مقدار نصيب الأُمِّ، في قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11].
* وبيَّن سبحانه مقدار نصيب الزَّوجة، في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12].
* وبيَّن سبحانه مقدار نصيب البنت، في قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].
* وبيَّن سبحانه مقدار نصيب الأخت، في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
وهكذا أعطى الإسلام للمرأة الحقَّ في الميراث، مراعياً حالها من حيث كونها: أمّاً، أو زوجةً، أو بنتاً، أو أختاً، وفصَّل ذلك في قرآنٍ عظيمٍ يُتلى إلى يوم القيامة؛ ليكون شاهداً على أنَّ الإسلام دين يُعلي من شأن المرأة ويحفظ لها كرامتها، ويحتفي بها أيَّما احتفاء، وليكون مسجِّلاً لنفسه سبقاً في هذا المضمار على جميع الشَّرائع والقوانين الوضعيَّة، التي ما زالت تتَّهم الإسلامَ بسوء المعاملة للمرأة، متناسين فضله وسبقه عليهم جميعاً، وغير مدركين أنَّه تشريعٌ إلهي صادر ممَّن يُؤتِي فضله مَنْ يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
المرفقات
1735718906_ميراث المرأة بين الجاهلية والإسلام.doc