نصوصٌ من الوحيَيْن في بِرِّ الوالدَيْن
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحَمْدُ لله، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ سُبْحَانه وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، أَشْهَدُ أَْنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَتَجَاوَزَ عَنِ الذَّنْبِ العَظِيمِ، وَهُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النبيُّ الكَرِيْم، أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً، ومِنَ الناسِ وفي البلاغ عَصَمَهْ، وهو الهَادِي إِلَى الصِّرَاطِ الـمُسْتَقِيمِ. اللَّهُمَّ صِلٍّ وَسَلَّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ سيِّدِ المُرسَلِين، وَعَلَى آله وَصَحِبَهُ أجمعين. أَمَّا بَعْدَ:
فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم، وَاعْمَلُوا لِلَّهِ مَا أَطَقْتُم، وَاذْكُرُوا اللَّهَ حيثُما كُنتُم، وَمنْ أَحْدَثَ ذَنْبًا فَلْيُتْبِعهُ بتَوْبَة، ولْيُحسِن الأَوْبَة.
عِبَادَ اللهِ.. قد جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبٍّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَتَعَلَّقَت القَلُوبُ بِصَاحِبِ الإنعامِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ أَعْظُمُ إحْسَانًا بَعْدَ اللهِ مِنَ الوَالِدَينَ.
مِنْ أَجَلْ ذَلِكَ قَرَنَ اللهِ تَعَالَى حَقَّهُمْا -فِي الإحْسَانِ إِلَيْهِما، وَحُسْنِ رِعَايَتِهِما- بِحَقِّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاَصِ، مما يَدُلُّ على تَعظيم اللهِ لِشأْنِهِمَا: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾ ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾ ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾ ﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا﴾.
ويُذكِّرُ اللهُ في أمرِهِ بِبِرِّ الوالدَين والإحسانِ إليهما بقيامهما عليك في صِغَرِكَ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾. ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾
عباد الله.. لقد تكاثرت الأحاديثُ الآمِرَةُ بِبِرِّ الوالدَين، فَإِلَيْكَ يا صَاح جُملَةً منها صِحَاح:
عن عَمْرُو بنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه قال: أتيتُ رسولَ الله ﷺ في أوّل ما بُعِثَ وهو بمكّةَ وهو حينئذ مُسْتَخْفٍ. فقلت: ما أَنْت؟ قال: «أنا نبيّ». قلتُ: وَمَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: «رَسُولُ اللَّهِ» قُلْتُ: بِمَا أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «بِأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَتُكْسَرَ الأَوْثَانُ وَتُوصَلَ الأَرْحَامُ بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ».
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: سألت النّبيّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ».
وعن المقدام بن مَعْدِ يَكْرِب رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ».
عباد الله.. والموتُ نهاية الحياة الدنيا، وليس موت الوالدين ينقطع به بِرُهما، بل يَتَمحَّضُ صِدق الولدِ لأنه لا يرجو شُكرًا منهما، جَاء رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيءٌ أَبِرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ ﷺ: «نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا -أي: الدعاء لهما-، والاِسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاثة: إلّا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ الرّجل لترفع درجته في الجنّة فيقول: أنّى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك».
وعنه رضي الله عنه أنّ رجلا من الأعراب لَقِيَهُ بِطَرِيْقِ مكّةَ فسلَّمَ عليه عبدُالله وحَمَلَهُ على حِمَارٍ كان يَرْكَبُهُ وأَعطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلى رَأْسِهِ. فقال ابنُ دِيْنَارٍ فقلنا له: أصْلَحَكَ اللهُ، إنّهم الأعرابَ وإنّهم يُرْضُونَ باليَسِيْرِ. قال عبدُالله: إنّ أبا هذا كان وُدًّا لِعُمَرَ بنِ الخطّاب، وإنّي سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «إنّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أَبيه».
وثوابُ البِرِّ مُعَجَّلٌ في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «بُرُّوا آباءَكُم تَبَرُّكُم أَبْنَاؤُكم».
وعن ثَوبانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزيد في العمر إلّا البرّ، ولا يردّ القضاء إلّا الدّعاء، وإنّ الرّجل ليحرم الرّزق بخطيئة يعملها».
وفي ثواب بِرِّ الوالدين في الآخرة: جاء حديثُ عبدِ الله بنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عن النّبيّ ﷺ قال: «رضا الرّبّ في رضا الوالد، وسخطُ الرّبِّ في سَخَطِ الوَالد».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «دخلتُ الجنّة فسمعت فيها قراءةً، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النّعمان كذلكم البرّ، كذلكم البرّ» وكان أبرّ النّاس بأمّه.
وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: إنّ رجلا أتاه، فقال: إنّ لي امرأة وإنّ أمّي تأمرني بطلاقها. فقال أبو الدّرداء: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنّة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه».
وبِرُّ الوالدين يُكَفِّ الذنوب، خاصة الوالدة لعظيم حقِّها وضَعفِها، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رجلا أتى النّبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله، إنّي أصبت ذنبا عظيما فهل لي توبة؟ قال: «هل لك من أمّ؟» قال: لا. قال: «هل لك من خالة؟» قال: نعم. قال: «فَبُرَّها».
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما إنّي لا أعلم عملا أقرب إلى الله- عز وجل من برّ الوالدة». وقال الإمام أحمد- رحمه الله: «برّ الوالدين كفّارة الكبائر».
وبعدُ أيها المسلمون.. فالبِرَّ البِرَّ عباد الله تُفلِحُوا، فإنه مِن حُسْنِ الإسلام وكمالِ الإيمان. ومن أفضل العبادات وأجلّ الطّاعات. وطريقٌ موصّلٌ إلى الجنّة. ويُورِثُ زِيادةً في الأجل ونَماءً في المال والنَّسْل. البارُّ حَسَنُ السّيرة، ومُعانٌ على إصلاحِ السريرة، ومرْفُوعُ الذِّكْرِ في الآخرة. تُغفَرُ به السيئات، وتُدرَأُ العقوبات، وتُفرَّجُ الكُرُبات.
رَبَّنا أَوْزِعْنا أَنْ نشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَينا وَعَلَى وَالِدِينا وَأَنْ نعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، وَأَدْخِلْنا بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. اللهم اجعلنا بارين بآبائنا وأمهاتنا، واغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدِيْنَا، ولِلْمُسْلِمِينَ أجمعين إنَّكَ أنت الغَفُورُ الرَّحِيْم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لله الَّذِي أَمَرَ بِالبِرِّ وَنَهَى عَنِ العُقُوقِ، وَصَلَاتُهُ وَسَلامُهُ على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الـمَصْدُوق، وَعَلَى آله وأتباعِهِ إلى يَوْمِ استِيْفَاءِ الحُقوقَ. أَمَّا بَعْد:
فلا يَجْدُرُ بِعَاقِلٍ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ وجوبَ بِرِّ الوالِدَين وفَضْلَ بذلك، وَيَعْلَمُ آثَارُهُ الحَمِيدَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، ثُمَّ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ وَيُقَابِلُهُ بِالْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ، وَهُوَ يَسْمَعُ نَهْيَ اللهِ تَعَالَى عَنْ عُقُوقِ الْوَالِدِينَ فِي أَعْظَمِ حَالٍ يَشُقُّ عَلَى الوَلَدِ بِرُّهُمَا، فإِنَّ الإِنسَانَ إِذَا كَبِرَ ضَاقَتْ نَفْسُهُ، وَكَثُرَتْ مُطَالِبُهُ، وَقَلَّ صَبْرُهُ، وَرُبَّمَا صَارَ ثَقِيلًا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ، فقال الله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
لقد تَوَعَّدَ اللهُ بِالْعَذَابِ الْألِيمِ وَاللِّقَاءِ الشَّدِيدِ مَنْ عَصَى وَالِدَيْهُ؛ لأَنَّ تِلْكَ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ فَظِيعَةٌ، وَجَرِيمَةٌ قَبِيحَةٌ شَنِيعَةٌ، أَذَهَبَا زَهْرَةَ العُمَرِ وَالشَّبَابِ فِي تَرْبِيَتِك، سَهِرَا لِتنَامَ، وَجَاعَا لِتشْبِع، وَتَعِبَا لِترْتَاح، فَلَمَّا كَبِرَا وَضَعُفَا وَدَنَيَا مِنَ القَبْرِ وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرَاهُمَا، وَقَلَّتْ حِيلَتُهُمَا: يُنْكَرُ جَمِيلُهُمَا، وَيُجْحَدُ حَقُّهُمَا، وَيقَابَلَا بِالغِلْظَةِ وَالجَفَاءِ.
ثم اعلموا عباد الله رحمكم الله أَنَّ اللهَ تبَاركَ وَتَعَالَى لَطَفَ بِعِبَادِهِ الـمُؤمِنِينَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلاةِ على سَيِّدِ الـمُرْسَلِيْنَ، فصَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا ومَوْلانَا تَشْرِيفًا وتَكْرِيْمًا، وصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائكَتُهُ تَفْضِيلًا وتَعْظِيْمًا، فَقَالَ مَن لَّمْ يَزَلْ سَمِيْعًا عَلِيْمًا عَلِيًّا عَظِيْمًا ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. فاللهم صلّ عليه وسلم، وارْضَ اللَّهُمَّ عن صَحْبِهِ الـمُكَرَم، وارضَ عنَّا وعن والدِينا وأَهْلَينا، ونسْأَلُكَ أنْ تُعِيذَنَا مِنَ الفِتَنِ وتُنَجِّينَا.
المرفقات
1755024169_نصوصٌ من الوحيين في بِرِّ الوالدَين.docx
1755024169_نصوصٌ من الوحيين في بِرِّ الوالدَين.pdf