نهي النفس عن الهوى 11/11/1446
خالد الشايع
1446/11/10 - 2025/05/08 18:04PM
الخطبة الأولى
أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله وراقبوه ، واعملوا بشرعه ، وطبقوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، واعلموا أنكم في دار بلاء وامتحان ، وغدا تجزون على أعمالكم ، فأعدوا للسؤال جوابا وللجواب صوابا .
معاشر المؤمنين: النفس تهوى وتتمنى ، والفتن قد أشرعت أبوابها ، وتزينت ، وسهلت الطرق للوقوع فيها ، وتكالبت الأمور على المؤمنين ، فأصبحت مجاهدة النفس والهوى والشيطان من أصعب الأمور ، ولا ينتصر عليها إلا موفق .
ولقد خوف الله عباده يوما يقفون بين يديه ويحاسبهم على أعمالهم ، وتكاثرت الآيات والنصوص الواردة في ذلك من تدبرها كانت له معينا على المجاهدة ، فقد قال سبحانه : ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النازعات: 40].
الهوى لا يقتصر فقط على الشهوة، بل في كل ما تحبه النفس وترغب فيه وهو محرَّم، يُورِد المهالك، والكَيسُ من نهى نفسه عن فعل ذلك، وصبر، وقاوم شهواته ونزواته ، ذلك الهوى الإبليسي الذي يزيِّن لك الإباحية، والزنا، ويرغِّبك في فعل الحرام، فمن يصبر وينهَ ويكبح هذه النار المشتعلة، ويُطفئها بمراقبة الله والخوف من الوقوف بين يديه ، ويكثر من الذكر والصلاة، والتسبيح والانشغال بما هو مفيد - فقد أفْلَحَ؛ لأن التجارة مع الله رابحة، والجزاء الجنة، ولذلك بين الجزاء بقوله ( فإن الجنة هي المأوى ) .
عبد الله : كلما هَمَمْتَ بفعل لذَّةٍ عابرة يرتعش فيها الجسد لدقائق معدودة؛ وتشعر بالنشوة، فتذكَّر أنها عابرة، وأنها لو كانت في الحلال، فإن لذتها أفضل للنفس؛ لأنك عندما تكون مع زوجتك، فإنها حلالك ولك أجر، بل إن الله إذا رأى فيك صدق الاستقامة، فإنه سبحانه يهيئ لك اللذة والقدرة والقوة في إشباع رغبتك مع زوجتك، ويسعدك السعادة التي تستحقها، بل ويؤلِّف بين قلوبكم، ويجعل المودة والمحبة بينكم نِتاجَ صلاحك وتقواك، وتجنُّبِك الزنا المحرَّمَ، والنظرات الشيطانية، ولتعلم أنك إن أصلحت نفسك مع الله، فإن حياتك سوف تسعد ، بحيث تعيش القوة واللذة مع زوجتك، على عكس من فقدوا الرغبة مع زوجاتهم، فاتخذوا طرقًا مخالِفة للفِطرة والقِيَم، وذهبوا للبحث عن الرخيص المحرم، وتركوا الغالي الحلال الذي بين أيديهم، وتحوَّلت منازلهم إلى جحيم من المشاكل، بل قد يصل الأمر إلى الطلاق نتاج نفور الزوج من زوجته، لتُكسَر العلاقة بينهما، وتغيب المودة والرحمة بينهما، فيظن أن اللذة بالحرام أعظم، ولا يعلم أن إبليس زيَّن له الحرام، ولو فكَّر المسكين بعقله، لَعَلِم أن الحلال أعظم، وأفضل للعيش بسعادة دائمة، دون ندم أو ألم أو قهر.
عباد الله : من منا لا يريد الجنة بل الجنان ، قال سبحانه ( ولمن خاف مقام ربه جنتان )
والخوف من مقام الله يعني أنك إذا هممت بمعصية ، تذكرت وقوفك بين يدي الله ، فارتعش قلبك خوفا من الله ، وهربت من الوقوف في المعصية .
إن من يجاهد نفسه ويخاف الله ، ويهرب من المعاصي ، بطلا مغوارا ، كما قال ابن الوردي في لاميته :
واتَّـقِ اللهَ فتـقوى الله مـا * * * جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
ليسَ مـنْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً * * * إنـما مـنْ يـتَّقي الله البَطَـلْ
فالمتقي لربه العاصي لهواه ، هو البطل الحقيقي ، وأما المتبع لهواه فهو أسير لعدوه يقوده في أودية الذل ، فإذا أردت عزا ليس معه ذل ، فاترك المعصية والزم الطاعة ، وإذا تأملت السبعة الذين يُظِلُّهم الله عز وجل في ظِلِّ عرشه يوم لا ظِلَّ إلا ظِله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظلَّ بمخالفة الهوى.
قال الله عز وجل: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾[الرحمن: 46]، قيل: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام الله عليه في الدنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله.
عبد الله : قبل الإقدام على المعصية تذكر الندامة بعد النهاية من فعلها ، فهي لذة تعقبها حسرة ، وعلى العكس ، إذا عصيت هواك ، أورثك الله سعادة في قلبك ، وأذاقك نشوة النصر على عدوك .
معاشر المؤمنين : إن بين يدينا أهوالا ينبغي أن نستعد لها ، سكرات الموت ، وعذاب القبر ، وأهوال القيامة ، ثم الوقوف بين يدي الله للحساب ، ثم الصراط ، هل تظن أنك ستتجاوز ذلك بسهولة وأنت غارق في معاصيك متبع لهواك . هيهات هيهات
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن
أقول قولي هذا ...........
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : كما سبق ذكره ليس اتباع الهوى مقتصر على الزنا والفواحش ، بل أعم من ذلك ، حتى في تعاملاتك مع الآخرين ، بل وتعاملك مع زوجتك وولدك ، بل مع والديك ، وفي كسب المال ، والتحايل على الناس ، فالمتبع للهوى ، يركب كل شيء يهواه ، حتى يكون كأنه يعبد هواه كما قال سبحانه ( أرايت من اتخذ إلاهه هواه )
بل نهى الله سبحانه نبيه أن يطيع من يتبع هواه ، كما قال سبحانه ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا )
قال ابنُ كثيرٍ - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾: (أي: مَهْمَا اسْتَحْسَنَ من شيءٍ ورآه حَسَنًا في هَوَى نفسِه؛ كان دِينَه ومَذْهبَه؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [فاطر:8]). ومَنْ تأمَّل المعاصي؛ وجَدَها تنشأ من تقديم هوى النفوس على مَحبَّةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى المشركين باتِّباع الهوى في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، وكذا البِدَعُ تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يُسمَّى أهلها أهل الأهواء.
والهوى شيء مُلازِمٌ للإنسان، لا يستطيع مُفارقَتَه، فلا يُعاقَبُ عليه إلاَّ عند العمل به، فإذا صدَّق ذلك بالعملِ؛ حُوسِبَ على هواه وعملِه. أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ: فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ»
قال ابنُ تيمية - رحمه الله -: (نَفْسُ الهوى والشَّهوةِ لا يُعاقَب عليه؛ بل على اتباعِه والعملِ به، فإذا كانت النفسُ تَهْوَى وهو ينهاها؛ كان نهيُه عِبادةً لله، وعملًا صالحًا). ومَنْ كانت هذه حاله فله الجزاء الحَسَن، قال سبحانه: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
عباد الله : يجب علينا جميعا أن نراقب الله في تصرفاتنا وأن لا نتبع أهواءنا ، بل نتبع الحق ، فنهاية الحق سعادة وراحة .
اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن
المرفقات
1747024859_نهي النفس عن الهوى.docx