هل تسجل الخطبة

هل تسجل الخطبة؟

أعني التسجيل الصوتي، أو بالصوت والصورة.

لم يكن التسجيل متاحًا في العصور الأولى لنعرف موقف القوم ومنه، ولكنهم نقلوا لنا كثيرًا من الخطب المميزة بالوسائل المتاحة لهم -وكانوا أهل حفظ واستحضار- حتى عرفنا خطبًا أو أجزاء من خطب، كخطبة الفتح وخطبة الوداع وغيرها من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، المروية في كتب السنة، وبعض خطب الخلفاء ونحوهم، وانتفع بهذه الخطب من لم يشهدها، وكانت من العلم الذي بلغه الشاهد للغائب.

أما في عصورنا المتأخرة فأتاحت الثورة التقنية تسجيل الكثير من الخطب وتناقُلَها عبر الأمكنة والأزمنة، وسمعنا خطب أناس لم يكن لنا أن نشهد خطبهم، ولا أن نلقاهم، وانتفعنا وغيرُنا بكثير منها، ولذلك لا يمكننا أن ننظر إلى تسجيل الخطب إلا من زاوية الشكر لله على هذه النعمة، والحث على استثمارها، ولكن التسجيل خدمة ينبغي أن نحسن استعمالها ونحذر مما يحتف بها من مزالق.

أما حُسن الاستعمال فيكون بالوصية بعدم التوسع في التسجيل إلا لنوادر الخطباء المؤثرين لأن الهدف من التسجيل توسيع دائرة التأثير وإبلاغ النفع أقصى مداه، وليس ذلك لكل أحد، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه فلم يضعها في غير موضعها.

والتنبيه إلى إجادة التسجيل والبعد عن المؤثرات الصناعية التي تخرج الخطبة عن طبيعتها، وتؤثر على هيبتها أو تنقص من تعظيمها كشعيرة من شعائر الإسلام.

وأما الحذر من مزالق التسجيل فمن جهة تأثيره على محتوى الخطبة أو إو إشغاله عن أهم المستفيدين المستفيدين من الخطبة وأحقهم بها وهم الحاضرون في المسجد، فإن الخطبة في الأساس حق لهؤلاء الحاضرين، وهم أولى الناس بالمراعاة فيها، فعلى الخطيب أن يراعي المحتوى الذي يناسبهم، والطريقة التي تصلح لهم، والوقت الذي لا يشق عليهم، وليسجل بعد هذه الاعتبارات خطبته، فإن رأى مناسبتها للنشر فبها ونعمت، أما أن يكون العكس فلا.

ولقد شهدتُ مرة خطبة لخطيب له بعض الشهرة في محيطه، فوجدته يتكلم في موضوع لا علاقة له بالمصلين، ورأيته يصنع في حركته ونظراته شيئًا لا يراعي فيه الحاضرين، فرابني أول وهلة أمره، ثم تنبهت إلى آلة تصوير منصوبة أمامه، فإذا هو يراعي في حركته مناسبة التصوير، وإذا هو يخاطب بمحتواه الجماهير، وإذا الشهود المنصتون له أقل الناس انتفاعًا بما يقول، وأهونهم عنده خطرًا، فتنبهت من حينها لهذا المزلق في تسجيل الخطبة، وها أنا ذا أحذر منه فاحذروه، رزقنا الله وإياكم معاشر الخطباء البصيرة فيما يبلغنا الخير، والإخلاص في القول والعمل، والله أعلم.