هُوَ بِها بَرّ ــ بِرُّ الوَالدَيْن
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: وَلِيٌّ مِنْ أَولِياءِ اللهِ المُتَّقِيْن، وَصَفِيٌّ مِنْ أَصْفياءِ اللهِ المُخْلَصِيْن. نَجِيْبٌ مِنَ النُّجَباءِ، وكرِيْمٌ مِنَ الكُرَماءَ، عَاشَ في زَمَنِ النُّبُوَّةِ في أَرْضِ بَعِيْدَةٍ عَنْ بَلَدِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَما رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا رَسُولُ اللهِ رآه. آمَنْ بِدَعوَةِ الإِسلامِ حِيْنَ بَلَغَتْه. واسْتَمْسَكَ بِتعالِيْمِ القُرآنِ حِيْنَ تَلاه.
نَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام من السَماءِ، فأَوحَى إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَخْبَرَهُ بِكَرامَةِ ذَاكَ الرَّجُلِ الغَائِبِ، وبِـمَكانِ إِقامَتِهِ، وبِمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللهِ. أَخْبرَهُ باسْمِهِ، وبِنَسَبِهِ، وبِبَلَدِهِ، وبأَوصَافِهِ، وبِسَبَبِ اصْطِفاءِ اللهِ لَه، وأَخْبَرَهُ بِموعِدِ مَقْدَمِه.
في أَوْصافٍ لا تُخْطِئُهُ إِلى غَيْرِهِ، ولا تَتَعَدَّاهُ إِلى سِواه. حَدَّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحابَهُ بِما أَوْحَى اللهُ إِليهِ بِهِ في شأَنِ ذاكَ الرَّجُلْ. فَما أَعْظَمَها مِنْ تَزْكِيَةٍ، وما أَصْدَقَهُ مِنْ إِطْراء. قَالَ أُسَيْرُِ بنِ جَابِرٍ: كانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه إذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ؟ ــ والأَمْدادُ هُم الجَماعَاتُ التي تأَتِي مَدداً للمُجاهِدِيْنَ في سَبِيْل الله ــ إذَا أَتَى عليه أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ؟ حتَّى أَتَى علَى أُوَيْسٍ فَقالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: مِن مُرَادٍ ثُمَّ مِن قَرَنٍ؟ ــ أَيْ أَنْتَ مِنْ قَبِيْلَةِ مُرادٍ؟ ــ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَكانَ بكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: لكَ وَالِدَةٌ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: يَأْتي علَيْكُم أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مع أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كانَ به بَرَصٌ فَبَرَأَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له وَالِدَةٌ هو بهَا بَرٌّ، لو أَقْسَمَ علَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ فَافْعَلْ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ له.. الحديث) رواه مسلم إِنَّهُ أُوَيْسُ بنُ عامِرٍ، إِنَّهُ ذُو المَقامِ الرَّفِيْع. بَلَغَ مِنَ الكَرامَةِ ما بَلَغ. وما بَلَغَها إِلا بِعَمَلٍ لَهُ في مِيزانِ اللهِ شأَنٌ، وما بَلَغَها إِلا بِعَمَلٍ لَهُ عِنْدَ اللهِ مَكان. بَلَغَها بالبِرَّ (لَهُ والِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ) فَما أَعْظَمَ ما أَدْرَكَ مِنْ جَزاءٍ (لَو أَقْسَمَ على اللهِ لأَبَرَّه) لو أَقْسمَ على اللهِ أَنْ يُعْطِيَهُ عَطاءً لأَعْطَاه، بَرَّ والِدَتَهُ فـَأَبَرَّ اللهُ قَسَمَه، جَزاءً وِفاقاً، وهَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلا الإِحْسان، واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِيْن.
(لَهُ والِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ) أَضافَ بِرَّهُ إِلى والِدَتِهِ دُونَ والِدِهِ، لأَنْ والِدَهُ قَدْ مَات. فَوُصِفَ بِالحالِ التِيْ هُوَ عليها.
أَقَامَ أُوَيْسٌ على بِرِّ والِدَتِه، ومَا عَلِمَ أَنَّ عَمَلُهُ ذَاكَ قَدْ أَوْرَثَ لَهُ السَّماءِ شأَناً. ما عَلِمَ أُوَيْسٌ وهُوَ يُرابِطُ على عَتَبَةَ البِرِّ في أَرْضِ اليَمَنِ، أَنَّ وَحْياً يَنْزِلُ بشأَنِهِ فَيَشِيْعُ خَبَرُهُ في أَرْضِ المَدِيْنَةِ. وأَنَّ أَكْرَمَ المُرْسَلِيْنَ يُوصِيْ خِيارَ صَحْبِهِ أَنْ يَتَحَرُّوا مَقْدَمَ أُوَيْسٍ، ويَأُمُرُهُم أَنْ يَسأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم.
لَقْدَ كانَ أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ يُقِيْمُ على أَكْرَمٍ عَمَلٍ، ويُؤَدِيْ أَعْظَمَ حَقٍّ بَعْدَ حَقِّ اللهِ عليهِ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
إِنَّهُ بِرُّ الوَالِدَيْن. مَقامُهُ في الدِيْنِ عَظِيْم، وثَوابُهُ عِنْد اللهِ كَرِيْم، ما لَزِمَهُ إِلا مُوَفَّقٌ، وما أَعِيْنَ عليهِ إِلا مَنْ اصْطُفِيَ لِمَنازِلِ النَّعِيْم. عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: «الصَّلاةُ علَى وقْتِها» قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: «ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: «الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ» رواه البخاري ومسلم
بِرُّ الوَالِدَيْنِ: إِحْسانٌ، وحُبٌّ، وقُرْبٌ، وطَاعَةٌ، وإِكْرامٌ، ورَحْمَةٌ، ورِعايَةٌ، وتَلَطُفٌ، وخَفضُ جَناح. بِرُّ الوَالِدَيْنِ: صَبْرٌ ومُصابَرَةٌ، وجِهادٌ ومُرابَطَةٌ، وبَذْلٌ وإِيْثارٌ، واحْتِمالُ مَشَقَّةٍ، وتَقَبُلُ أَذَى. بِرُّ الوَالِدَيْنِ: لَيْسَتْ عَلاقَةٌ تَحْكُمُها الأَهواءُ وتُسَيِّرُها الرَّغَبات. ولا صِلَةٌ تَنْهَضُ بِها المَطامِعُ وتَقْعُدُ بِها العَقَبات. فإِنْ هَانَ طَرِيْقُ البِرِّ ووافَقَ الـهَوى أَقْبَلَ الابْنُ وهَرْوَل، وإِنْ ثَقُلَ البِرُّ أَو خَالَفَ الهَوى، أَحْجَمَ الابْنُ وأَدْبَر.
بِرُّ الوَالِدَيْنِ، فَرِيْضَةٌ مِنْ فَرائِضِ الدِيْن، وطَاعَةٌ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن، وعُبُودِيةٌ مَحْضَةٌ تُنالُ بِها المَنازِلُ العَالِيَةُ يَومَ الدِيْن. بِرُّ الوَالِدَيْنِ دَيْنٌ يُوَفَّى، وحَقٌّ يُؤَدَّى، ووَفَاءٌ لِمَنْ سَلَفَ مِنْهُم الفَضْلُ، ورَدٌّ لِجَمِيْلِ السَابِقِ مِن الإِحْسان. جَاءَ بَيانُ ذَلِكَ في مُحْكَمِ القُرآنِ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
* بِرُّ الوَالِدَيْنِ، بَابٌ مِنْ أَوْسَعِ الأَبْوابِ المُوْصِلَةِ إِلى الجَنَّةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم
* بِرُّ الوَالِدَيْنِ، مَقامُهُ مُقَدَّمٌ على أَكْثَرِ الأَعْمالِ الصَّالحَةِ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ على الجِهادِ في سِبِيْلِ اللهِ في أَكْثَرِ أَحْوَالِه. عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو رَضْيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أقبَلَ رَجُلٌ إِلى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ والجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ وَالِدَيكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا، قَالَ: «فَتَبْتَغِيْ الأَجْرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا». وفي رِوَايَةٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأَذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَاَل: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِد» متفق عليه {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ ولِيُّ الصَالحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمداً رَسُولُ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وصلى اللهُ وسلَمَ وبارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وأَصْحابِهِ أَجْمَعِيْن، وعلى مَنْ تَبِعَهُم بإِحْسانٍ إِلى يَومِ الدِّيْنِ. أَما بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يا عِبادَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون.
أيها المسلمون: لَهُ والِدٌ ولَهُ والِدَةُ يَملآنِ سَمْعَهُ وبَصَرَه، يَمْلآنِ قَلْبَهُ ومَشاعِرَه، قَرِيْبٌ مِنْهُما، لَطِيْفُ بِهِما. هو لَهُما مُحِبٌّ، وهو بِهما فَخُورٌ، وهُو لَهُما مُحْسِنٌ، وهُوَ بِبِرِّهِما مَسْرُور. في باحَتِهِما يُقِيْمُ، وفي طَلَبِ رِضَاهُما يَتَقَلَّبْ.
لا يُؤْثِرُ عَلِيْهِما صَاحِبٌ ولا زَوْجَة، ولا خِلٌّ ولا وَلَد. مَقَامُهُما في القَلْبِ مُقَدَّم، ومَكانَتُهُما في النَّفْسِ كَبِيْرَة. يُعَامِلُهُما بالتَوْقِيْرِ والإِجْلالِ، ويُخاطِبُهُما بالرِّفْقِ والليْن. لا يَتَجاهَلُ لَهُما رَغْبةً، ولا يُغْفِلُ لَهُما طَلَب. يَتَتَبَّعُ ما يَهوَونَ، ويَتَقَصَّدُ ما يَتَمَنَّوْن، ويَسْتَكْشِفُ ما يُحِبُّون. ويَسْعَى في إِدْخالِ السُّرُورِ عَلَيْهما.
مالُهُ لَهُما مَبْذُول، وَوَقْتُهُ بِهِما مَشْغُول، واهْتِمامُهُ بِهِما يَتَنَامَى ويَطُول، يَنْتَقِيْ لَهُما أَطْيَبَ الأَقْوالِ، ويَصْطَفِيْ مَعَهُما أَشْرَفَ الأَفْعالِ، ويُقْبِلُ عَلِيْهِما بِقَلْبِهِ وجَوارِحِه، ويَتَوَاضَعُ لَهُما، ويُلِيْنُ لَهُما في جانِبِه.
يَتَحاشَى مِن الأَخْبارِ ما يُؤْذِيْهما، ويَتَجَنَّبُ مِنَ الشَكْوَى ما يُؤْلِمُهُما، ويَنْتَقِيْ مِنْ الحَدِيْثِ ما يُؤْنِسُهُما. لا يُظْهِرُ أَمَامَهُما شَكْوَى لا يَمْلِكانِ لَها حَلاً، ولا يُبْدِيْ لَهُما أَلَماً لا يَمْلِكانِ لَهُ دَواء.
بِرُّ الوَالِدَيْنِ، إِحْسانٌ نابِعٌ مِنْ مَحَبَّةٍ واحْتِرامٍ وتَوْقِير. فَلمْ يَرْتَقِ في مَراقِي البِرِّ مَنْ كَانَتْ عَلاقُتُهُ بِوالِدَيْهِ مَشُوبَةً بِكَدَر. بِرُّ الوَالِدَيْنِ مِضْمارٌ سَبْقٍ بَيْنَ الأَبناءِ، ولَيْسَ لذاكَ المِضْمارِ نِهايَة. يَتنافَسُ الأَبناءُ على بِرِّ والِدَيْهِم، وكَمْ بَيْنَ المُتَسابِقِيْنَ في مَضامِيرِ السَّبْقِ مِنْ فَوارِق.
بِرُّ الوَالِدَيْنِ، تَتَفاوَتُ وسائِلُهُ، وتَتَنَوَّعُ طَرائِقُهُ، وتَخْتَلِفُ مَسالِكُه، فأَحْسِنِ إِلى والدَيْكَ بِما يُوافِقُ حَاجَتَهُما، ويُحَقِّقُ أُنْسَهُما، ويجْلِبُ السُّرُورَ إِليْهِما.
بِرُّ الوالِدَيْنِ.. يَتَفَوَّقُ فيهِ مَنْ كانَ مُبادِراً فَطِناً ذَكِياً. يَتَفَرَّسُ حَاجَةَ والِدَيْهِ، ويَتَفَطَّنُ لِمَطَالِبِهِما، ويَتَحَسَّسٌ ما أَخْفَيا مَنْ رَغَبَاتِهِما، ويَتَحَرَّى ما يَبْغِيان.
بِرُّ الوَالِدَيْنِ، أَعْظَمُ ما يَكُونُ، يَومَ يَسْتَقِيْمُ الوَلَدُ على أَمْرِ اللهِ، فَما قَرَّتْ عَيْنُ والِدٍ بِأَعْظَمَ مِنْ صَلاحِ ولَدِه.
وفي مُقابِلِ البِرِّ، يَتَجَلَّى أَعْظَمُ ذَنْبٍ، عُقُوقٌ هُو مِنْ أَكْبَرِ الكَبائِرِ. فأَدْنَى كَلِمَةٍ مِنْ الإِساءَةِ إِلى الوالِدَيْنِ، هِيَ عِنْدَ اللهِ مِنْ عَظائِمِ الذُّنُوب، فَما الظَّنُ بِما فَوْقَها من صُوَرِ الإٍساءَةِ {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}
بِرُّ الوَالدِيْنِ لا يَنْقَطِعُ بَوَفاتِهِما، بَلْ يَتَأَكَدُ البِرُّ ويَعْظُمُ مَقامُهُ بَعْدَ الوَفاةِ، فَلَيْسَ الوَالدُ بأَحْوَجَ إِلى بِرِّ ولَدِهِ لَهُ مِنْهُ بَعْدَ المَوْت.
ويَكُونُ بِرُّ الوالِدَيْنِ بَعْدَ المَوتِ، بِكَثْرَةِ الدُّعاءِ لَهُما، وبطَلَبِ المَغْفِرَةِ لَهُما ورِفْعَةِ الدَّرَجَات. ويَكُونُ بالصَدَقِةِ عَنْهُما، قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: (الصَّدَقَةُ عَنِ المَوْتَى وَنَحْوُهَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِيْن)
ويَكُونُ بِرُّ الوالِدَيْنِ بَعْدَ مَوتِهِما بِقَضاءِ ما عَلِيْهما مِنْ دَيْنٍ أَو نَذْرٍ أَو صَوم. ويَكُونُ بِصِلَةِ أَرْحامِهِم، والإِحْسانِ إلى أَهْلِ مَوَدَّتِهِم، وفي الحَدِيْثِ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ البِّر أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدَّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ ــ أَيْ بَعْدَ أَنْ يَمُوت ــ» رواه مسلم
اللهم احفظ علينا ديننا..
المرفقات
1755166179_هُوَ بِها بَرّ ــ بر الوالدين 21 ــ 2 ــ 1447هـ.docx