وإياي فارهبون

فهد السعيد
1446/11/08 - 2025/05/06 10:30AM

الحمد لله الذي أعلى كعب الإسلام على هام جميع الأديان، وجعله عنوان المكانة وعلو الشأن، وأيده بالدلائل القاطعة والبرهان، وأمده بالنصر والظفر والفتح والسلطان.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ونبيه بالحق أرسله، شهادة تنبئ عن حق اليقين، وأرفع بها إلى درج المتقين، وأنال بها الخلود مع النبيين والصديقين.

اللهم فصل وسلم وبارك على هذا النبي الكريم والرسول العظيم سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم - عباد الله - ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنها الكنز الذي لا ينفد، والعز الذي لا يُفقد؛ فاتَّقُوا الله تفوزوا برضوانه، وتستوجبوا فضل رحمته وغفرانه، وتُدركوا غنيمة بره وإحسانه، ويعمكم فائض فضله ورضوانه، وتكونوا من المكتوب لهم دخول جنانه، والمعصومين بمنه وأمانه.  

 
ابن آدم حاسب نفسك قبل هول الحساب، وعاقبها قبل حلول العذاب، أنقذ نفسك من النار، فإنك لتخوض في أوحالها، وتسرع إلى أوجالها، ولا تخشى مفاجأة أهوالها. ناقش نفسك بأقوالها وأفعالها، وشدّد عليها في علمها وأعمالها.  

 
فهل لكم في النجاة من المهلكات؟ هل لكم في الفوز بالنعيم المقيم في رفيع الغرفات؟ هل لكم في اتباع الخيرات واجتناب الموبقات؟ فاتقوا الله - عباد الله - تفوزوا بالباقيات الصالحات.

أخ الإسلام من تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره في القرآن العظيم وجد من التأكيد على هذا الجانب العجب العجاب، وكذلك السنة الصحيحة التي هي مفسرة ومبينة المعاني الكتاب، وكذلك سيرة السلف الصالح أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تطبيق عملي لهذا المقام العلي، ومن تأمل أحوالهم وقرأ سيرهم، وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات لربهم وخالقهم، أدرك أن ذلك هو الذي رفاهم إلى بلوغ الأحوال الشريفة والمقامات المنيفة، فكانوا قدوة حسنة في شدة الاجتهاد في الطاعات والانكفاف عن المحرمات والمكروهات، ولهذا قال بعض السلف:

خوف الله تعالى حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا وعوارض الشبهات.

وقد ضمن الله سبحانه الجنة لمن خافه من أهل الإيمان، فقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)

عن ابن عباس: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه وأدوا فرائضه الجنة.

وقال مجاهد في هذه الآية: الله قائم على كل نفس بما كسبت، فمن أراد أن يعمل شيئاً فخاف مقام ربه عليه فله جنتان.

وعنه أنه قال: هو الرجل يذنب فيذكر مقام الله فيدعه.

وعنه قال: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيتركها.

وعن الحسن، قال: قالت الجنة يا رب لمن خلقتني قال لمن يعبدني وهو يخافني. وعن وهب بن منبه قال: ما عبد الله بمثل الخوف.

وقال أبو سليمان الداراني: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف الله فهو قلب حرب.

عن أنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين متفق عليه.

أيها المؤمنون: وقوله تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)

تصل الذنوب إلى الذنوب وتَرْتَجي ... دَرَكَ الجنان بها وفوز العابد ونَسِيتَ أنَّ اللهَ أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد

إذا تذكر العبد هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد.  

 
ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات.

فيا ليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله عز وجل وخوف الوقوف بين يديه، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه.  

 
 
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)

اللهم يسر حسابنا، ويمن كتابنا، وأصلح قلوبنا وأعمالنا.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله ولي الصالحين، ومجيب المضطرين، وموقظ الغافلين، وهاد الحائرين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين أما بعد:

فإن الخوف من الله تعالى ودوام مراقبته، واستحضار مطالعة الله للإنسان من أجل صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)وقال عز وجل:(وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ∗الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)

وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم خصال الافتقار والفاقة إليه سبحانه فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته وسلطانة الذي لا يقهر ، وعينه التي لا تنام، وقدره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)وقال تعالى:(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى∗فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى)وقال تعالى:(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) هكذا ينبغي أن نكون.

ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجيز به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، وقد وصفهم الله فقال: (أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ)وقال سبحانه في وصفهم:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً)وقال:(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سجداً وقياماً)قال الحسن البصري: تجري دموعهم على خدودهم فرقاً من ربهم. وتأمل يا عبد الله قول الحق جل وعلا:(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً∗وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً∗وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) لعلها ذلك يحدث في قلبك خشية، ويوجد لك في العين دمعة، ويوقظ في نفسك من الخير باعثاً ومحركاً، كما جسد الشاعر هذا المعنى فقال:

ذكر الممات طوال الليل أرقني ... والخوف أَزْعَجَني والكَرْبُ المني

أيها المسلمون: إن من أعظم الأسباب حضور القلب وبعث الخشية من القلوب تذكر القيامة وما فيها من هول الحساب وشدة المؤونة، ففي الحديث: (تُدْنى الشَّمْسُ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيل) قَالَ الرَّاوِي: فَوَاللَّهِ مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالمِيلِ، أَمَسَافَةَ الأرض أم الميل الذي تُكْتَحَلُ بِهِ العَيْنُ؟ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلى ركْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يكون إلى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِمُهُ العَرَقُ الجَامًا) وَأَشَارَ رَسُولُ الله الى فيه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قَالَ: (يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حَتَّى يَذْهَب عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِراعًا، ويُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ)

وعنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله ﷺ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ : (هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟)قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ :(هَذَا حَجَرٌ رُميَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النار حتى انتهى إلى قغرهَا، فَسَمِعْتُمْ وَجْبَتَها) رواه مسلم.

وعن عَدِي بن حاتم قَالَ: قَالَ رسولُ الله : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشَامَ مِنْهُ فَلَا يرى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ ثمرة) متفق عليه.

أيها المسلمون: بادروا بالأعمال قبل حلول الآجال، وعظموا يوماً عظيما: (يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ∗وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ∗وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ∗لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)

لقد أصبنا بداء الأمن من مكر الله وعذابه في هذه الدنيا حتى غرنا بالله الغرور وركن الكثير منا إلى الدنيا فنسوا يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم فاستعدوا بالخوف من عقاب الله وأنتم مشفقون من عقابه راجون رحمته وثوابه فمن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة). أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى والغضب ونسألك حبك وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك.

اللهم وفقنا لتقواك واجعلنا نخشاك كأنا نراك.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.

المشاهدات 21 | التعليقات 0