واخفض لهما جناح الذل من الرحمة

عبدالرحمن اللهيبي
1447/02/20 - 2025/08/14 23:58PM
من المنقول بتصرف
 
 

فيا أيها المسلمون: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها، وليس أعظم إحساناً على المرء ولا أكثر فضلا وامتنانا بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين.

فقد حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، وعند الوضع رأت الموت بعينها، وحين بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها.

حين نظرت إليك في تلك اللحظة رأت فيك الحياة وزينتها، ثم قضت شبابها في خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها

تحيطك وترعاك وتتفداك بروحها، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت ، وتتعب لترتاح أنت

أما أبوك فيكد لأجلك ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار سعيا في تحصيل لقمة عيشك، لينفق عليك ويربيك.

الأبوان -يا عباد الله- يبكيان ليبتسم أولادُهما، ويشقيان ليسعد أبناؤهما ، يجوعان ليشبعوا، ويعطشان ليرتووا، الوالدان كالشمعة التي تحترق حتى تذوب ليستضيء الأولاد باحتراقها

هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فعلام عند الكبر التنكر للجميل؟

كيف تتحدث معهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت أو تأفف، والله يقول: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)

فتخير عند خطابها من الكلمات ألطفها، ومن العبارات أجملها، ومن الألفاظ أعذبها (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)

تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل إجلالا ورحمة بهما ،

فها هما قد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم ، وذلك بعد أن صرفا شبابهما لأجلك ، وصحتهما في تربيتك، وأموالهما في رعايتك ، فتأمل قول ربك: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ)

إن كلمة (عندك) تدل على حاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى اليوم دورُهما، ليبدأ دورك أنت، قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل.

فيا عباد الله إن حق الوالدين جد عظيم ، ولا وفاء لهما مهما بذلت وبرَرَت ، ولكن أحسن إليهما ما استطعت ، وأكثر من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما ، فإن كثرة الدعاء لهما تجبر التقصير ، وكرر دائما (رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا

أيها المسلمون: إن العار والشنار والويل والثبور أن يفجأ الوالدان من ولدهما بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان منه للإحسان، ويؤملان فيه البر والإكرام، فإذا بهذا العاق المخذول يؤذيهما وينهرهما ، ويجاهرهما بالسوء فيقهرهما

فيا أيها المخذول: هل حينما كبرا والداك فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قد تفضلت على أصحابك بالإحسان، ثم تقابل جميل والديك بالنسيان.

كيف يهنأ العاق بحياة ووالداه عليه غاضبان، وكيف يرجو توفيقا وفلاحا وهما عليه ساخطان ، وأنا له أن يسعد وهما منه حزينان، كيف يُقدِّم أهلَه وولدَه عليهما في البر والإحسان

أما علمت أنه كما تدين تدان ، وأن من بَرَّ بوالديه بر به بنوه ، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، والجزاء من جنس العمل. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).

وقال صلى اله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه.

وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)) ، وقال ﷺ : ((يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق)

واعلموا أن بِر الوالدين من أعظم ما يكفر الله به الذنوب ، وجزاء البر في الآخرة رفعة في الجنة وسلامة من العذاب ونجاة من النار، وأما جزاؤه في الدنيا فبركة وسعة في الرزق، وطول في العمر، وتيسير في الأمر ، وإجابة للدعوة، وتوفيق في الحياة وحسن في الخاتمة. قال صلى اله عليه وسلم قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويُدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)). والوالدان هما أقرب الناس إليك رحماً

أقول قولي هذا ...

 

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن من البر أن يتعاهد الرجل أصدقاء والديه، ويحسن كرامتهم، ويفي بحقهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أبر البر صلة الولد أهلَ ودِ أبيه)).

وجاء رجل إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)).

فيا لله ما أسعدَ مَنْ مات عنه أبواه وهما عنه راضيان، لِلَّهِ ما أسعدَه وما أهناه، بكى إياس بن معاوية حينما ماتت أمه بكاء شديدًا، فلما سئل قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأُغلِقَ أحدُهما.

ويا لله ما أشقى من ماتا عنه والداه، وهما عليه غاضبان، ألَا ما أخيبه وما أخسَرَه..

فالبدارَ البدارَ، في البر بالوالدين، قبل فوات الأوان برحيلهما فإنهما لن يَرَيَا دموعَك حين تذرفها بعد أن يغادروا هذه الدار، ولن يشعُرَا بقُبلاتك لجثمانهما ولا بضمك لهما، ولا بحزنك عليهما، فلا قيمةَ لشيء من ذلكم البتةَ، ما دامَا لم يرياها منك وهما على قيد الحياة

فيا عباد الله ـ من كان له أبوان فليهنأ بهما، وليسْعَ جهدَه في إرضائهما، ومن فجعه الدهر بهما أو بأحدهما فلا ينساهما من صلاته ودعواته وصدقاته، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، والحياة دين ووفاء، وكلنا راحلون، إنك ميت، وإنهم ميتون،

فأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من عباده الأبرار .. المحسنين الأخيار .. البارين بوالدِيهم .. والمحسنين لهم في الحياة وبعد الممات

اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم احفظ الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا

اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم، فنور قبره، واغفر ذنبه وخطأه

اللهم اجزهما عنا خير الجزاء، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك،

اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا، اللهم أعلِ همتهم، وارزقهم العمل لما خلقوا لأجله ووفقهم للبر بآبائهم وأمهاتهم واجعلهم من خير عبادك المتقين..

المشاهدات 498 | التعليقات 0