وبالوالدين إحسانا

عبدالله بن محمد حفني
1446/07/23 - 2025/01/23 08:16AM
(الخُطْبَةُ الأُولَى)
الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ وقد أَعْطَانَا وكَفَانَا وآوَانَا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شهادةً نرجو بها فوزًا ورِضْوَانًا، وأشهدُ أن نبيَّنَا مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، بالبِرِّ والإِحْسَانِ أوصَانَا، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الَّذِينَ كانوا على الخيرِ أَعْوَانًا، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا وأَلْوَانًا. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
سَبْعُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، اسْتَمِعُوا إِلَيْهَا وَأَنْصِتُوا:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ البقرة: ٨٣
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ النساء: ٣٦
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الأنعام: ١٥١
﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الإسراء: ٢٣
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ العنكبوت: ٨
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ﴾ لقمان: ١٤ – ١٥
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ الأحقاف: ١٥
هَلْ سَمِعْتُمْ أَوْ قَرَأْتُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْصَى بِالإِحْسَانِ إِلَى مَخْلُوقٍ كَمَا أَوْصَى بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ؟
بَلْ إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِالبِرِّ فَقَطْ بَلْ أَمَرَنَا بِالإِحْسَانِ، وَالإِحْسَانُ أَعْظَمُ مِنَ البِرِّ.
تَأَمَّلْ هَذَا الخَبَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي "الأَدَبِ المُفْرَدِ" وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ: " رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ اليَمَنِ، يَسِيرُ فِي الفَلَاةِ وَيَقْطَعُ الفَيَافِيَ وَالقِفَارَ، قَاصِدًا بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَصَلَ الرَّجُلُ حَتَّى دَخَلَ البَيْتَ العَتِيقَ حَامِلًا أُمَّهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَطَافَ بِهَا سَبْعًا وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا المُذَلَّلُ ، إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ ، أَحْمِلُهَا وَمَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرُ .
وَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِأُمِّهِ رَأَى الصَّحَابِيَّ الجَلِيلَ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟ فَقَالَ: "لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ"
اللّهُ أَكْبَرُ! إِنَّهُ بِرُّ الوَالِدَيْنِ، إِنَّهُ الإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ، إِنَّهَا العِبَادَةُ الَّتِي عَظَّمَ اللهُ شَأْنَهَا وَأَضَعْنَاهَا اليَوْمَ.
الوَالِدَانِ لَا تُوفِيهِمَا الكَلِمَاتُ، وَلَا تَرْفَعُهُمَا العِبَارَاتُ، يَا مَنْ تَطْلُبُ رِضَاءَ اللهِ ، يَا مَنْ تَخْشَى سَخَـطَ اللهِ ، يَا مَنْ تَطْمَعُ فِي الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ عَلَيْكَ بِالبرِّ .
هَا هُوَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ حَيًّا وَمَيِّتًا.
عُمَرُ الَّذِي مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا آخَرَ.
عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- الَّذِي رَأَى النَّبِيُّ ﷺ قَصْرَهُ فِي الجَنَّةِ ، يَقُولُ لِأَهْلِ اليَمَنِ: "أَفِيكُمْ أُوَيْسٌ؟"
أُوَيْسٌ رَجُلٌ تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، وَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَقَالَ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
يَا كِرَامُ .. أُقْسِمُ لَكُمْ بِاللهِ العَظِيمِ، مَا عَلِمْتُ شَيْئًا أَرْضَى لِلرَّبِّ، وَأَسْعَدَ لِلعَبْدِ، وَأَوْفَى بِالعَهْدِ، أَعْظَمَ مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ.
أَيُّهَا الاِبْنُ .. تَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّابِعِيِّ أُوَيْسَ بْنَ عَامِرٍ كَيْفَ بَلَغَ هَذِهِ المنِزِلَةَ العَالِيَةَ؟
رَجُلٌ أَدْرَكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي زَمَانِهِ، وَالصَّحَابَةُ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ يُهَاجِرُونَ إِلَيْهِ ﷺ لِيَظْفَرُوا بِرُؤْيَتِهِ وَيَفُوزُوا بِصُحْبَتِهِ، وَأُوَيْسُ مُقِيمٌ فِي بِلَادِ اليَمَنِ، هُنَا يَأْتِي السُّؤَالُ ؟ مَا الَّذِي مَنَعَ أُوَيْسًا أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَيَفُوزَ بِرُؤْيَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، فَيُدَوِّنَ التَّارِيخُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
وَيَأْتِيك الجَوَابُ: أَنَّ أُوَيْسًا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ صُحْبَةِ وَرُؤْيَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِرًّا بِأُمِّهِ.
فَقَدَّمَ بِرَّ أُمِّهِ عَلَى صُحْبَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَكَافَأَهُ اللهُ فَجَعَلَهُ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ.
هَلْ عَلِمْتُمْ مَاذَا يَفْعَلُ بِرُّ الوَالِدَيْنِ؟ أَرَأَيْتُمْ إِلَى ثَمَرَةِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ؟
أَيُّهَا الاِبْنُ ... أَيْنَ نَحْنُ مِنَ البِرِّ؟
مَاذَا قَدَّمْنَا لَهُمَا؟ كَيْفَ إِحْسَانُنَا إِلَيْهِمَا؟
لَقَدْ أَصْبَحْنَا مِنْ أَزْهَدِ النَّاسِ فِي الإِحْسَانِ لِلوَالِدَيْنِ، وَالجُلُوسِ مَعَهُمَا، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمَا، وَاللهِ وَتَاللهِ إِنَّ العُقُوقَ عَمَّ بُيُوتَنَا، وَمَلَأَ سُجُونَنَا، وَطَغَى فِي دُورِنَا.
يَا بُنَيَّ ... خُذْهَا وَصِيَّةً مِنْ مُحِبٍّ يَرْجُو لَكَ الخَيْرَ، أدْرِك والديك فقد قال ﷺ : «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم .
وَاللهِ إِنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ، خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِ الأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ مدح اللهُ نَبِيَّهُ يَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ مريم: ١٤
وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ مريم: ٣٢
يَا بُنَيَّ ... إِذَا مَضَى شَبَابُ الوَالِدَيْنِ، وَعَلَا مَشِيبُهُمَا، وَرَقَّ عَظْمُهُمَا، فَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.
أقول قولي هذا ..

(الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ)
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ.
نَحْنُ وَاللهِ لَا يَنْقُصُنَا العِلْمُ بِفَضْلِ بَرِّ الوَالِدَيْنِ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُنَا العَمَلُ بِمَا نَعْلَمُ.
يَنْقُصُنَا الخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ العُقُوقِ.
يَنْقُصُنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ اللَّحْظَةَ الَّتِي نُمْسِي فِيهَا بِلَا أَبٍ وَنُصْبِحُ بِلَا أُمٍّ، إِي وَاللهِ يَا بُنَيَّ، إِنَّ حَيَاةَ الوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الخَيْرِ، فَوَاللهِ مَا فُقِدَ مَفْقُودٌ كَوَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، فَطُوبَى لِمَنْ يَأْوِي بَعْدَ هَذِهِ الخُطْبَةِ إِلَى حِجْرِ أُمِّهِ وَمَجْلِسِ أَبِيهِ، هَنِيئًا لِمَنْ يَعِيشُ فِي أَحْضَانِ أُمِّهِ وَرِعَايَةِ أَبِيهِ.
فَضَاعِفْ بِرّكَ ، وَزِدْ فِي إِحْسَانِكَ، وَمَتِّعْ بَصَرَكَ بِوَالِدَيْكَ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ البَابُ.
اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ، آثِرْهُمَا عَلَى كُلِّ جَلِيسٍ، أَنْفِقْ عَلَيْهِمَا، وَلَا تَمُننَّ تَسْتَكْثِرْ، وَأَبْشِرْ فَإِنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِينَنا عَلَى بَرِّ وَالِدَيْنَا.
اللَّهُمَّ قَدْ قَصَّرْنَا فِي شَأْنِهِمَا، وَأَخْطَأْنَا فِي حَقِّهِمَا، فَاغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا.
اللَّهُمَّ امْلَأْ قَلْبَيْهِمَا بِمَحَبَّتِنَا، وَأَلْسِنَتَهُمَا بِالدُّعَاءِ لَنَا، وَاجْعَلْهُمَا رَاضِيْنَ عَنَّا، وَاجْعَلْنَا لَهُمَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ مَنْ أَفْضَى مِنْهُمَا إِلَى مَا قَدَّمَ، فَنَوِّرْ قَبْرَهُ، وَاغْفِرْ له، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)﴾ [القمر: ٥٤ - ٥٥]
اللَّهُمَّ احْفَظْ مَلِيكَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ، وَسَدِّدْهُمَا، وَأَعِنْهُمَا، وَاجْزِهِمَا عَنَّا خَيْرًا.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرفقات

1737609354_23- وبالوالدين احسانا.docx

1737609354_23- وبالوالدين احسانا.pdf

المشاهدات 169 | التعليقات 0