وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

أ.د عبدالله الطيار
1447/02/26 - 2025/08/20 18:01PM
الْحَمْدُ للهِ أمَرَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ، وَأستغفر الله، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْبرِّ وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَنَهَى عَن الْعُقُوقِ وَعَدَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالموبِقَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجْمَعِينَ أمّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) الأحزاب: [70].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنْ أَوْثَقِ الرَّوَابِطِ والصِّلاتِ، وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَأَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ: صِلَةُ الْوَالِدَيْنِ وَبِرّهمَا، والإِحْسَان إليْهِمَا، وحِفْظ حُقُوقهمَا، قَالَ تعالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) النساء: [36] وَحُبّ الوَالِدَيْنِ فِطْرَةٌ فُطِرَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، والْفِطَرُ النَّقِيَّةُ، فالنَّفْسُ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَأَكْرَمَهَا وأَيّ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ، وَمَعْرُوفٍ وَإِكْرَامٍ بَعْدَ اللهِ عزَّ وجلَّ كَفَضْلِ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) لقمان: [14].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: امتنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى عِبَادِهِ بنِعْمَةِ الْخَلْقِ والإِيجَادِ، ولِلْوَالِدَيْنِ بِنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ والإِيلادِ، ولِذَا قَرَنَ حَقَّهُ بِحَقِّهِمَا، قَالَ تَعَالَى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) لقمان: [14] فَجَعَلَ شُكْره مِنْ شُكْرِهِمَا، وَرِضَاهُ شَرْطٌ لِرِضَاهُمِا، قَالَ ﷺ: (رِضى الرَّبِّ في رِضى الوالِدِ، وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الوالِدِ) أخرجه الترمذي (1899) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (516).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، قَرِينُ التَّوْحِيدِ، وَبَابُ التَّوْفِيقِ، وَعُنْوَانُ الْوَفَاء، وَهُوَ أَسْمَى الْعِبَادَاتِ قَدْرًا، وَأَعْظَمهَا أَجْرًا، وأَيْسَرهَا جَهْدًا وَبَذْلًا، وَأَقْصَرُ طَرِيقٍ لِلْجَنَّةِ لا يُوَفَّقُ لَهُ إلا مُوَفَّقٌ مَيْمُونُ، وَلا يَغْفَلُ عَنْهُ إلا غَافِلٌ مَغْبُونٌ، جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ قالَ ﷺ: ويحَكَ، أحيَّةٌ أمُّكَ؟ قُلتُ نعَم، قالَ: ويحَكَ الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ) وقالَ: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه) أخرجه الترمذي (1900) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وَيَتَأَكَّدُ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، وَوُجُوبُ بِرِّهِمَا، والْعِنَايَة بِهِمَا، حَالَ الْعَجْزِ وَالْكِبر، والشَّيْخُوخة والْهِرَم، قَالَ تَعَالَى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء: [23] وقالَ النبيُّ ﷺ: (رَغِمَ أنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) أخرجه مسلم (2551).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَصِيَّةُ اللهِ إِلَيْكُمْ، وَعَهْدُهُ لَكُمْ، وَمِيثَاقُهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) الأنعام: [151] وَقَالَ ﷺ: (إنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِأمَّهَاتِكُمْ، إنَّ اللهَ يُوصيكم بأمَّهاتِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بأمَّهاتِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بآبائِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بالأقرَبِ فالأقرَبِ) أخرجه أحمد (17187)، والبخاري في الأدب المفرد (60)، وصحَّحه الألباني في صحيح الأدب المفرد (44).
عِبَادَ اللهِ: وَلِلْبِرِّ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَدَرَجَاتٌ عَدِيدَةٌ، يَتَفَاوَتُ فِيهَا الأَبْنَاءُ، وَيَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْبررَةُ الأَوْفِيَاءُ، فَيَكُونُ الْبرُّ بِصَلاحِ الابْنِ، وَاسْتِقَامَتِهِ، فَأَكْثَرُ مَا يُبْهِجُ قُلُوبُ الآَبَاءُ صَلاحُ الأَبْنَاء، وَيَكُونُ الْبرّ كَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ لهما، وَالإِحْسَانَ الرِّفْق بهما، وَخَفْض الْجَنَاح وَإِدٍخَال السُّرُور عَلَيْهِمَا، وَبِالمَالِ بِالإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، وَتَفَقّدِ حَاجَاتِهِمَا، وَيَكُونُ الْبر كَذَلِكَ بِصِلَةِ الإِخْوَةِ والأَخَوَاتِ، والإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا.
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُوجِبٌ لِلثَّنَاءِ والمدْحِ، فَقَدْ زَكَّى اللهُ تَعَالى نَبِيَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) وَزَكَّى يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقَوْلِهِ: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) وَقَالَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ خيرَ التّابعينَ، رَجُلٌ يُقالُ له: أُوَيسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّه، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ فلْيَسْتَغْفِرْ لُكُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (إِنِّي لا أَعْلَمُ عَمَلا أَقْرَبُ إِلَى اللهِ عزَّ وجلَّ مِْنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (15).
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ لُطْفِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ بِرّ الْوَالِدَيْنِ بَاقيًا مُتَّصِلًا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، فَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهمَا؟ قَالَ ﷺ: نَعَم، الصَّلاةُ عليهما، والاسْتغفارُ لهما، وَإِنْفَاذُ عَهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بهما..) أخرجه أبو داود (5142)
عِبَادَ اللهِ: إنَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، صِلَة الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إلا بِهِمَا، وَأَوْثَقُ هذِه الصِّلَةِ وَأَعْلاهَا، صِلَةُ الإخْوَةِ والأَخَوَاتِ، الأَشِقَّاءِ والعَلاَّتِ، وَالأَخُ أَوْلى النَّاسِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ شَقِيقًا كَانَ أَوْ لأَبٍ، لأُمٍّ كَانَ أَوْ مِنَ الرَّضَاعِ، قَالَ ﷺ: (بِرَّ أُمَّكَ وأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) أخرجه النسائي (2531) وصححه الألباني في الإرواء الغليل (3/322)
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء: [23-24].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وليِّ الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَم المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ علامةٌ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ، وَدَنَاءَةِ الطَّبْعِ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، قَالَ ﷺ (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قالوا: بَلى يا رَسولَ اللَّهِ قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ) أخرجه البخاري (6273).
واعْلَمُوا أنَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَسَادٌ في الأَرْضِ، ومُوجِبٌ لِلَّعْنِ والطَّرْدِ، قَالَ تَعَالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) محمد [22-23]. واعلموا أنَّ مَنْ بَرَّ بِوَالِدَيْهِ؛ بَرَّهُ بَنُوهُ، وَمَنْ عَقَّهُمَا؛ عَقُّوهُ، وَمَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ؛ وَصَلَهُ اللهُ تَعَالى ببِرِّهِ وَإِحْسَانِه ونُصْرَتِهِ، ومَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ تعالَى مِن بِرِّه وإحسانِه وعَوْنِه وتَوفيقِه ورحْمتِه، قال ﷺ: (مَا مِنْ ذَنبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ العُقوبةُ مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ، مِنْ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) أخرجه أبو داود (4902) وصححه الألباني في الأدب المفرد (23) اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدِينَا، وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 21 /2/ 1447هـ
المشاهدات 93 | التعليقات 0