وَعلَّمْناهُ صَنْعَة 1ـ 8ـ 1446هـ
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أيها المسلمون: مُتأَمِلٌ في النِّعَمِ مُتَفِكِرٌ في النَّعِيْم، مُشاهِدٌ للفَضْلِ مُعْتَرِفٌ للهِ بالإِحْسان. نِعَمٌ ومُتَعٌ في الحَياةِ تُبْحِرُ المَراكِبُ في بِحارِها. نِعَمٌ تَعْجَزُ العُقُولُ عَنْ حًصْرِها، وتضْعُفُ القُوى عَنْ شُكْرِها، وتَنْهَزِمُ المَدارِكُ عَنْ تَعْدَادِها {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}
أَمَدَّ اللهُ العِبادَ بِنِعَمٍ لا مُنْتَهى لَها. نِعَمٌ أَوْدَعها اللهُ في الأَرْضِ فَهُم بِها يَتَقَلَّبُون، ونِعَمٌ في أَقْطَارِ السَّماواتِ فَهُم بِبَرَكاتِها يَتَفَيّؤُون {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} قَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله : (وَهَذَا شَامِلٌ لأَجْرَامِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِمَا أَوْدَعَ اللهُ فِيْهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالكَوَاكِبِ.. وَأَنْوَاعِ الحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الأَشْجَارِ والثِّمارِ وَأَجْنَاسِ المَعَادِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ بَنِيْ آدَمَ .. فَهَذَا يُوْجِبُ عَلَيْهِم أَنْ يَبْذُلُوا غَايَةَ جُهْدِهِمْ في شُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَأَنْ تَتَغَلْغَلَ أَفْكَارُهُمْ في تَدَبُّرِ آيَاتِهِ وَحِكَمِهِ، ولِـهَذَا قَال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}) .
* وأَمامَ نَافِذَةٍ مِنْ نَوافِذِ النِّعَمِ، يَقِفُ المَرْءُ مُتَفَكِّراً، يُبْصِرُ جَلِيْلَ قَدْرِها، ويُشاهِدُ عَظِيْمَ فَضْلِها، ويدْرِكُ كَرِيْمَ أَثَرِها. نِعْمَةٌ مِنْ النِّعَمِ التِيْ يَسَّرَ اللهُ بِها لِلْعِبادِ سُبُلَ العَيْشِ، وخففَ عَنْهُم بِها نَصَبَ الكَدِّ، وذَللَ لَهُم بِها سُبُلَ الحَياة. أَشَارَ القُرآنُ إلى شَيءٍ مِنْ تِلْكَ النّعَمِ، لِتَبْقَى العُقُولُ لَها مُدْرِكَةً، ولِتَظَلَّ الأَفْئِدَةُ لَها مُبْصِرَة، ولِتَكُونَ القُلُوبُ مُتَفَكِرَةً بِكُلِّ نِعْمَةٍ تُماثِلُها. نِعْمَةُ الصِّناعَةِ لِلْمُخْتَرعاتِ، نِعْمَةُ التَطْوِيْرِ للْمُبْتَكَرَات، نِعْمَةٌ أَكْرَمَ اللهُ العِبادَ بِها. عِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ.
عِلْمُ الصِّناعَةِ عِلْمٌ شَرِيْفٌ، مِنَ النَّبِيينَ مَنْ كَانَ لَهُ فيهِ قَدَمُ سَبْقٍ.
فُلْكٌ تَمْخُرُ عُبابَ البَحْرِ، تُبْحِرُ في المُحِيْطَات، تَحْمِلُ الأَثْقالَ، وتُواجِهُ الأَهْوالَ، تَجْرِيْ في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاس. صِناعَةُ الفُلْكِ، صِناعَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ في الأَقْدَمِيْن. ونُوحٌ عليه السَّلامُ أَوَّلُ المُرْسَلِيْن. أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَصْنَعَ فُلْكاً {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}
ولَمْ يَزَلِ العِبادُ لهذهِ الصَّنْعَةِ يَتَوارَثُون، عَلَّمَهُم اللهُ فيها مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ، وسَخَرَ لَهُم مِنْ أَسْبابِ تَطَوُّرِها ما لَم يَكُونُوا يُدْرِكُون، وذَلَّلَ لَهُم مِن الصِّعابِ فيها ما لَمْ يَكُونُوا يُطِيْقُون {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}
الصِّناعَةُ للآلاتِ النافِعَةِ وللمُخْتَرَعاتِ، عَمَلٌ شَرِيْفٌ وحِرْفَةٌ كَرِيْمَة، مِنَ النَّبِيينَ مَنْ كَانَ لَهُ فيهِا قَدَمُ سَبْقٍ، عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «كَانَ زَكَرِيَّا عليه السلامُ نجَّارا» رَواهُ مسْلِم
ونَبِيُّ اللهِ دَاوُدُ عليهِ السَّلامُ قَالَ اللهُ عَنْه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: (وَهَذِهِ الآيةُ أَصْلٌ في اتخاذِ الصَّنَائِعِ وَالأَسْبَابِ، وَهْوَ قَوْلُ أَهْلِ العُقُوْلِ والأَلْبَابِ ــ فَالصِنَاعَةُ سَبَبٌ ـــ وَالسَّبَبُ سُنَّةُ اللهِ في خَلْقِهِ، فَمَنْ طَعَنَ في ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ا.هـ
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} امْتَنَّ اللهُ عَلَى عِبادِهِ بِصَنْعَةٍ عَلَّمَهَا نَبِيَّهُ دَاوُدَ عليه السلامُ فَانْتَفَعَ بِـهَا النَّاسُ، ولا زالُوا بِها يَنْتَفِعُون. ثُمَّ قَالَ اللهُ لِعِبادِهِ {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} صَنْعَةٌ واحِدَةٌ عَاتَبَ اللهُ العِبادَ على التَبَاطُؤِ عَنْ شُكْرِها. وفي زَمانِنا هَذَا، عَنْ أَيْ صَنْعَةٍ وابْتِكارٍ ونَعْمَةٍ نَتَحَدَّث؟! {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
صِناعاتٌ وابْتِكارَاتٌ تَمْلأُ أَرجاءَ سَاحَاتِنا، في كُلَّ ساعَةٍ تَتَحَدَّث، وفي كُلِ لَحْظَةٍ تَتَقَدَّم. وفي كُلِّ آَونَةٍ تَتَطَوَّر. سِباقٌ مَحْمُومٌ بَيْنَ أَرْبابِ العُقُولِ والعُلُومِ، للوصُولِ إِلى أَقْصَى ما يُمْكِنُ للعُقُولِ البَشَرِيَّةِ أَنْ تَصِلَ إِليهِ مِنْ مُخْتَرَعاتٍ، والنَّاسُ بِها يَنْتَفِعُون.
فَتَحَ اللهُ على العُقُولِ في عُلُومِ الصِناعَةِ في زَمانِنا ما لَمْ يَفْتَحْهُ على عُقُولِ مَنْ سَبَقَ ـ واللهُ أَعْلَم ـ ويَسَّرَ لِلْعِبادِ مِنْ أَسْبابِ التَّقَدُّمِ فيهِا ما لمْ يُيَسِّرْه على مَنْ سَبَقَ ـ واللهُ أَعْلَم ـ .
صِناعَةٌ يَتَآزَرُ فيها جُهْدُ البَدَنِ مَعَ جُهْدِ العَقْلِ. ويُتَفِقُ فيها صَفاءُ الذِّهْنِ مَعَ بَراعَةِ التَّفْكِيْر. تُكْتَسَبُ بالخِبْرَةِ وبالتَّجْرَبَةِ وبالبَحْثِ وبالتَّعَلُّم. فَسُبْحانَ مَنْ {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} سُبْحانَ مَنْ {.. عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
فَتَحَ اللهُ عَلَى العِبَادِ مِنْ النِّعَمِ في هَذَا البَابِ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِم مُضاعَفَةَ الشُّكْرِ لِرَبِهِم. فَكُلُّ نِعْمَةٍ تَنْزِلُ بِساحَةِ العِبادِ، يَجِبُ عليهِم أَنْ يُقَابِلَوها بالشُّكْرِ لله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}
عَنْ أَيْ صِناعَةٍ واخْتِراعٍ نَتَحَدَّث، وعَنْ أَيِّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ علينا نُفِيْضُ. عِلْمٌ عَرَجَ بِهِ الإِنْسانُ في مَراقِي الفَضَاءِ. وارْتَقَى بِهِ مُحَلِّقاً في أَجْواءِ السَّماءَ. في الجَوِّ يُحْمَلُ آمِناً، وفي البَرِّ يُحْمَلُ آمِناً، وفي البَحْرِ يُحْمَلُ آمِناً. وَسائِلُ سَخَّرَها اللهُ للإِنْسانِ، يَسَّرَ لَهُ بِها الأَسْبابُ، وذُلَّلَ لَهُ بِها الصِّعابُ. فَما عادَ يَرْتَحِلُ البَعِيْرَ، وما عادَ يَرْكَبُ الحِمارَ، وما عَادَ يَمْتَطِيْ ظُهُورَ البِغال {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عُقُولٌ عَلَّمَها اللهُ مِنْ عُلُومِ الحَياةِ ما أَنْتَجَتْ بِهِ فُنُونَ الصِّناعَاتِ ودَقائِقَ المُخْتَرَعات. ولَولا تَعْلِيْمُ اللهِ لِتِلْكَ العُقُولِ لَما عَلِمَتْ {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
والتَّقْنِيَةُ، عِلْمٌ وصِناعَةٌ حَارَتْ أَمامَ آفاقِها العُقُولُ، وَوَقَفَتِ أَمامَ مَنافِعِها الأَفْهامُ في ذُهُول. أَثَرُ التَّقْنِيَةِ سَرَى نَفْعُهُ في مَناحِيْ الحَياةِ. فَما مِنْ عِلْمٍ مِن العُلُومِ إِلا وللتَّقْنِيَةِ فيهِ أَبْلَغُ أَثَر. تَقْنِيَةٌ يُبْصِرُ الإِنْسانُ فيها عَظِيْمَ فَضْلِ اللهِ على عِبادِه، ويُبْصِرُ فيها عَظِيْمَ قُدْرَةِ اللهِ الذِيْ خَلَقَ عُقُولاً جَعَلَ لَها من القُدْرَةِ أَنْ تَبْلُغَ بالتَّقْنِيَةِ ما بَلَغَتْ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ؟ بارك اللهُ لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسولُ رَبِّ العَالَمِيْنَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْن
أيها المسلمون: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} عَلَّمَ اللهُ عِبادَهُ مِن الصِّناعاتِ ما ملأَ بِهِ حَياتَهُم نَعِيْماً {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
صِناعاتٌ تَحارُ أَمامَ مَنافِعِها العُقُول. عُقُولٌ تَفَتَّقَتْ في عُلُومِ الحَياةِ مَدارِكُها، واتَّسَعَتْ في مَناحِيْ الدُّنْيا نَواحِيْها. فأَبْدَعَتْ في صِناعَاتِها وتَفَوَّقَتْ، وسَبَقَتْ في مُخْتَرَعاتِها وتَقَدَّمَتْ. صَنَعَتْ مِنَ التَّقْنِيَةِ ذكَاءً مُصْطَنَعاً. تَجاوَزَ في أَثَرِهِ حُدُودَ ما يَسْتَوْعِبُهُ العَقْلُ مِنْ إِدْرَاك. فَسُبْحانَ مَنْ {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
وإِن المُؤْمِنَ لَيَقِفُ أَمامَ تِلْكَ الصِّناعَاتِ البَاهِرةِ ــ التي سَرَتْ مَنافِعُها ــ وَقْفَةَ مُؤْمِنٍ مُعْتَرِفٍ لِرَبِهِ بالفَضْلِ. يُدْرِكُ أَنَّ اللهَ هُوَ يَسَّرَها، وأَنَّه لا فَلاحَ إِلا لِمَنْ شَكَر، فَيَقُولُ المُؤْمِنُ، مَا قَالَهُ نَبِيُّ اللهِ سُلِيْمانُ عليه السَّلامُ حِيْن أَبْصَرَ ما أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عليه: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
فَيَقُومَ بِتِلْكَ النِّعَمِ قَيامَ العَامِلِ بِها بِمَرْضَاةِ اللهِ. يَنْصُرُ بِها دِيْنَ اللهِ، ويَنْشُرُ بِها شَرِيْعَةَ اللهِ، ولا يُصَيِّرُها جِسْراً يَمْضِيْ بِهِ في مَعاصِي الله، ومَنْ تَدَبَرَ قَوْلَ اللهِ وَعَى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
* وَوَقْفَةُ تَفَكُّرٍ في تِلْكَ العُقُولِ التِيْ وُهِبَتْ عِلْماً أَنْتَجَتْ بِهِ أَبْرَعَ المُخْتَرَعات. كَيْفَ ضَلَّ أَكْثَرُها عَن الإِيْمانِ بِفاطِرِ الأَرْضِ والسَّماوات؟! كَيْفَ اهْتَدَوا إِلى شَتَى عُلُومِ الحَياةِ، ثُمَّ ضَلُوا عَنِ الإِيْمانِ بِبارِئِ الكَائِنات؟! كَيْفَ تَخَطَّوا المَصَاعِبَ في البَحْثِ في أَدَقِّ المَسائِلِ، ثُمَّ أَخْفَقُوا في فَهْمِ أَوْضَحِ المُسَلَّمات؟! كَيْفَ رَضُوا بالكُفْرِ بِرَبِهِم، ورَغِبُوا عَنْ لُزُومِ أَكْرَمِ مِلَّة؟!
تَساؤُلٌ يُفْزِعُ القُلُوبَ جَوابَه. تِلْكَ قُلُوبٌ أَقْبَلَتْ عَلى الدُّنْيا، فَنالَتْ مِنْ عُلُومِها ما بَعْد. وأَعْرَضَتْ عَنْ الآخِرَةِ، فَبَعُدَ عَنْها من الحَقِّ مَا قَرُب {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وُهِبُوا سَمْعاً وأَبْصاراً وأَفْئِدَةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَعْرَضُوا عَنْ اللهِ، فأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُم {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
عَظُمَ في القُرآنِ مَقْتُهُم، قَالَ اللهُ في شأنِهِم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قَال السعدي رِحِمَهُ اللهُ : (وَمِنَ العَجَبِ أَنَّ هَذَا القِسْمُ مِنَ النَّاسِ قَدْ بَلَغَتْ بِكَثِيْرٍ مِنْهُمُ الفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ فَي ظَاهِرِ الدُّنْيَا إِلى أَمْرٍ يُحَيِّرُ العُقُوْلَ وَيُدْهِشُ الأَلْبَابَ. وَأَظْهَرُوْا مِنْ العَجَائِبِ الذُّرِيَّةِ وَالكَهْرَبَائِيَّةِ والمرَاكِبِ البَرِّيَةِ والبَحْرِيَّةِ والهَوَائِيَّةِ مَا فَاقُوا بِهِ وبَرَزُوْا.. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَبْلَدُ النَّاسِ فِيْ أَمْرِ دِيْنِهِمْ، وَأَشَدُّهِمْ غَفْلَةً عَنْ آخِرَتِهِم، وَأَقَلُّهِمْ مَعْرِفَةً بِالعَوَاقبِ.. فَفِيْ جَهْلِهِمْ يَتَخَبَّطُوْن وفي ضَلالِهِمْ يَعْمَهُوْن وَفِيْ بَاطِلِهِمْ يَتَرَدَّدُوْن، نَسُوْا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُوْن)ا.هـ
يُدْرِكُ المُؤْمِنُ حِيْنَئِذ، أَنَّ الهِدايَةَ للصِّراطِ المُسْتَقِيْمِ، هِيَ مَحْضُ تَوْفِيْقٍ مِنْ اللهِ، لا تُدْرَكُ بنُبُوغِ العَقْلِ، ولا بِبراعَةِ الفَهْمِ، ولا بِزِيادَةِ العِلْمِ، ولا بِوُضُوحِ الطَرِيْق {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
اللهم اهدنا صراطك المستقيم..
المرفقات
1738224062_وَعلَّمْناهُ صَنْعَة 1ـ 8ـ 1446هـ.docx