وقفات مع آية " الدَين "

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، من شُمولِ هذا الدِّينِ ومِن رَحمَتِهِ أنْ شَمِلَ جميعَ جوانبِ الحياةِ، فكما اهتمَّ دِينُنا بالعباداتِ مِن صلاةٍ وصومٍ وحجٍّ، شَمِلَتِ العنايةُ أيضًا بحياةِ النَّاسِ ومُعاملاتِهِم، وجاءَ في كتابِ اللهِ وفي سُنَّةِ رسولِهِ ﷺ ما يضمنُ الحقوقَ وينظِّمُ المعاملاتِ ويحفظُها، فقد بَيَّنَتِ الشَّريعةُ حُكمَ البيعِ والشِّراءِ، وإنظارِ المُعْسِرِ، والوصيةِ في السَّفرِ وفي الحَضَرِ، وأحكامَ المواريثِ وغيرَها الكثيرَ.

 ومن أحكامِ المعاملاتِ التي بيَّنَتْها لنا شريعةُ الإسلامِ أحكامُ الدَّينِ والمُدايَنَةِ.

عِبَادَ اللهِ، النَّاسُ فيهمُ الغَنِيُّ القادرُ، وفيهمُ الفقيرُ المُحتاجُ، والمالُ مالُ اللهِ تعالى، جَعَلَ في حركتِهِ ودَوَرَانِهِ بينَ النَّاسِ حِكَمًا، ورتَّبَ عليهِ أجورًا، ولمَّا كانَ المالُ أمرًا يُحتاجُ إليهِ، وقد لا يجدُهُ البعضُ ولا يمتلِكُهُ، حثَّ سبحانهُ على إقراضِ المُحتاجِ وتفريجِ كُربتِهِ، والتيسيرِ على المُعْسِرِ وإنظارِهِ، ورغَّبَ الغنيَّ في تفريجِ كُربتِهِ وسدّ حاجتِهِ، وعَدّ المقرِضَ كالمنفِقِ نصفَ ما أقرضَ، روى ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: ""ما مِن مُسلِمٍ يُقرضُ مُسلِمًا قرضًا مرتينِ إلَّا كانَ كصَدَقَتِها مرة" أخرجه ابنُ ماجَهْ

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، وفي أطولِ آيةٍ في كتابِ اللهِ تعالى يتولَّى اللهُ بنفسِهِ تعليمَ أهلِ الأموالِ كيفيةَ حفظِ أموالِهِم، وضمانَ حقوقِهِم حالَ الإقراضِ والمدايَنَةِ والبيعِ لأَجَل، وقد بَيَّنَ اللهُ ذلكَ بأعلى بيانٍ، وبأسهلِ طريقةٍ، وأضمنِ كيفيةٍ، فخاطبَ أولًا أهلَ الإيمانِ بذلكَ، فقالَ تعال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه)ُ، فهذا نداءٌ من الرَّبِّ سبحانهُ لعبادِهِ المؤمنينَ بأمرٍ هوَ خيرٌ لهم، ولذا يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: "إذا سَمِعْتُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فإنَّما هوَ أمْرٌ يأمرُكَ اللهُ بهِ، أو نهيٌ ينهاكَ اللهُ عنه.

وهذا النِّداءُ يحملُ إرشادًا منهُ سبحانهُ وحثًّا بقولِهِ): فَاكْتُبُوه)ُ.

وفي كتابةِ الدُّيونِ حِفظًا للحقوقِ، ودفعًا للنِّزاعِ والطَّمَعِ، ولذا أمرَ اللهُ بتدوينِها وكتابتِها دَرْءًا للمفاسدِ وابتِعادًا عن الخلافات،  وكم هيَ المفاسدُ والشَّكاوى والدَّعاوى بسببِ تركِ هذا الإرشادِ القرآنيِّ والتوجيهِ الرَّبانيِّ بكتابةِ الدُّيونِ وتوثيقِها، لأن أحوالُ النَّاسِ تتغيَّرُ وتضطربُ، فيعرضُ عليهم النِّسيانُ، وقد يأخذُهُم الطمعُ فيكونُ الجحودُ والنُّكرانُ وأكلٌ لأموالِ النَّاسِ بالباطلِ، وقد يتساهلُ أناسٌ في السَّدادِ والوفاءِ، كما قد تُصيبُ آخرينَ مصيبةُ الموتِ، ويضيعُ المالُ بينَ الورثةِ بينَ مُصَدِّقٍ ومُكَذِّبٍ.

ولهذا اسْتُحِبَّ للمسلمِ كتابةُ الدُّيونِ وتوثيقُها عملًا بقولِ اللهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، وقد تَجِبُ الكتابةُ عندَ غلبةِ الظَّنِّ بالخُصومةِ والنِّزاعِ وضياعِ الحقوقِ، وفي الكتابةِ دفعًا للشَّكِّ والرَّيْبِ والنِّسيانِ، واللهُ يقولُ في بيانِ حكمةِ الكتابةِ والإشهادِ: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا).

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، ليسَ للتَّحَرُّجِ في كتابةِ الدُّيونِ أيُّ مكانٍ، وليسَ للمُجامَلَةِ في التوثيقِ أيُّ داعٍ؛ وذلكَ بعدَ أمرِ اللهِ تعالى وإرشادِهِ، فكم هيَ الخُصوماتُ بينَ الأصدقاءِ، وبينَ الإخوةِ والأقاربِ بسببِ الخلافاتِ الماليَّةِ التي نَشَأَتْ بسببِ تركِ كتابةِ وتوثيقِ الدُّيونِ والمعاملاتِ الماليَّةِ.

يقولُ الشَّافعيُّ رحمه الله:

لا يَكُنْ ظَنُّكَ إِلَّا سَيِّئًا *** إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ أَقْوَى الفِطَن

مَا رَمَى الْإِنْسَانَ فِي مَخْمَصَةٍ *** غَيْرُ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْقَوْلِ الْحَسَن

فلو أنَّ النَّاسَ عَمِلَتْ بكتابِ اللهِ وبسُنَّةِ رسولِهِ ﷺ لكانَ فيهِ غِنْيَةٌ لهم وطُمَأْنينةٌ.

وليعلَمِ المؤمنُ أنَّ كتابةَ الدُّيونِ وتوثيقَها منَ العباداتِ التي يُؤجَرُ العبدُ عليها، لأنهُ استجابَ لنداءِ الرَّبِّ سبحانهُ وعمِلَ بأمرِهِ .فما أحسنَ أمرَ اللهِ وحُكمَهُ وشَرْعَهُ.

وعلى المسلمِ أنْ يقومَ بكلِّ ما يحفظُ حقَّهُ ويضمنُ مالَهُ وسِلعَتَهُ، ومن ذلكَ الاهتمامُ بحفظِ المبايعاتِ والفواتيرِ والإيصالاتِ والسَّنَدَاتِ.

أَيُّهَا الْكِرَامُ.. وإذا حلَّ موعدُ سدادِ الدَّينِ، وحانَ الأجلُ المُسَمَّى بينَ الطرفينِ، وَجَبَ الوفاءُ بلا مُماطَلَةٍ ولا بَخْسٍ) :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود (

وهل جزاءُ مَن فَرَّجَ كُربتَكَ، ونَفَّسَ همَّكَ، إلَّا المُبادَرَةُ بالوفاءِ والسَّدادِ وتركُ المُماطَلَةِ والتخفِّي والجحودِ؟!

ولنعلَمَ أنَّ اللهَ سبحانهُ عالمٌ بنِيَّاتِ النَّاسِ عندَ أخذِها من النَّاسِ واستدانتِهِم، قالَ ﷺ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّه" رواه البخاريُّ

أما من حَلَّ عليهِ الوفاءُ، وكانَ مُعْسِرًا لا يستطيعُ السَّدادَ، وفيهِ نِيَّةُ الوفاءِ، فلْيُبشِرْ بعونِ اللهِ وتفريجِهِ.

وعلى الدَّائِنِ والمُقْرِضِ أنْ يتذكَّرَ قولَ اللهِ تعالى في بيانِ فضلِ إنظارِ المُعْسِرِ، (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)ٍ.

والإعسار ليسَ ذنبًا يستوجبُ العقوبةَ، إنَّما هوَ ابتلاءٌ من اللهِ تعالى، قالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ""مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَة" رواه أحمدُ وابنُ ماجَهْ

ومنَ الخيرِ لمن وسَّعَ اللهُ عليهِ وأغناهُ، أنْ يضعَ من الدَّينِ بعضَهُ أو كلَّهُ صدقةً وتيسيرًا على المُعْسِرِ، كما قالَ جلَّ وعلا:) وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وفي الصَّحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ ﷺ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْه."


 

الخطبة الثانية

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فإنَّ المؤمنَ الحَصِيفَ، المُشْفِقَ على نفسِهِ، يسعى جاهدًا على أنْ يلقى ربَّهُ بريءَ الذِّمَّةِ، غيرَ مُتَوَرِّطٍ بحقٍّ ولا مَظْلَمَةٍ ولا مالٍ، لأنَّهُ يُوقِنُ أنَّ الحسابَ عظيمٌ، والموقفَ جليلٌ بينَ يَدَيْ رَبِّ الأرضِ والسماءِ.

ولقد تساهلَ البعضُ في الدُّيونِ والاقتراضِ دونَ حاجةٍ مُلِحَّةٍ، أو فاقةٍ تُرفَعُ، إنَّما لأجلِ السَّفرِ أو المُبالَغَةِ في المناسباتِ، أو شراءِ الكمالياتِ وإظهارِ الزينةِ والتحسيناتِ.

ومن أعظمِ ما يَشغَلُ ذِمَّةَ المؤمنِ، ويُثْقِلُ كاهلَهُ يومَ القيامةِ الدَّيْنُ، فقد بَيَّنَ النَّبيُّ ﷺ أنَّ الدَّيْنَ لا يُغفَرُ مهما بَلَغَ صلاحُ المؤمنِ، ولو قُتِلَ شهيدًا في سبيلِ اللهِ صابرًا مُحتسبًا مُقبِلًا غيرَ مُدْبِرٍ.

وكانَ النَّبيُّ ﷺ يستعيذُ باللهِ من الدَّيْنِ. فقالَ لهُ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، ما أكثرَ ما تستعيذُ من المَغْرَمِ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ" متفقٌ عليهِ

ومن دُعائِهِ ﷺ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ" رواه البخاريُّ.

ومن أثقلتْهُ الدُّيونُ، وعلتْهُ الهمومُ، وعَجَزَ عن أدائِها، فعليهِ بالإقبالِ على اللهِ وكثرةِ الاستغفارِ وحُسنِ الظَّنِّ في اللهِ، فعن عليٍّ رضي الله عنه، أن مُكاتَبًا جاءَهُ فقال: إنِّي قد عَجَزْتُ عَن مُكاتَبَتِي فأَعِنِّي، قالَ: "ألا أُعلِّمُكَ كَلِماتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رسولُ اللهِ ﷺ لو كانَ عَلَيْكَ مِثلُ جَبَلِ صِيْرٍ دَيْنًا أدَّاهُ اللهُ عَنْكَ؟، قال: قُلْ: "اللَّهُمَّ اكفني بِحلالِكَ عَن حرامِكَ، وأغنِني بِفَضلِكَ عَمن سِواكَ". رواه الترمذي

المشاهدات 1254 | التعليقات 0