وقفات مع العام الدراسي الجديد 1447هـ
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَان، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَان، رَفَعَ قَدْرَ الْعِلْمِ وَأَهْلَهُ، فَجَعَلَ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ المرسلينَ، وإِمَامُ المعلِّمِينَ، وقُدْوَةُ المربِّينَ صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجمعين أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة: [282].
أيُّهَا المؤمنُونَ: للعلمِ في الإسلامِ منزلةٌ ساميةٌ، ومكانةٌ عاليةٌ، فهو ركيزةٌ من ركائزِ الإيمانِ باللهِ عزّ وجلّ، وطريقٌ لمعرفتِهِ سبحانَهُ، والعلمُ أوَّلُ رسالةٍ في الإسلامِ ابتدأَ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ وَحْيَهُ إلى خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق: [1-5] وَهَذَا تَأْكِيدٌ عَلَى أنَّ الإسْلامَ رِسَالةٌ لِلْعِلْمِ وَالْفَهمِ، وَمَحْوِ الأُميَّةِ، وَرَفْعِ الْجَهْلِ.
عِبَادَ اللهِ: وَطَلَبُ الْعِلْمِ في الإِسْلامِ عِبَادَةٌ، والسَّعْيُ في تحْصِيلِهِ طَاعَةٌ، قَالَ ﷺ: (وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ) أخرجه مسلم (2699).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالْعِلْمُ مِيرَاثُ الأَنْبِيَاءِ، وَحِلْيَةُ الْعُلَمَاءِ، وَمَقَامُ الأَصْفِيَاءِ، مَنْ ظَفِرَ بِهِ ارْتَفَعَ شَأْنُهُ وعَلا قَدْرُهُ، وصَلُحَ أَمْرُهُ، وزَانَ خُلُقُه، واسْتَقَامَ طَبْعُهُ، قالَ تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة: [11] وَقَالَ ﷺ: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ) أخرجه البخاري (3116) ومسلم (1037).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ولمكَانَةِ الْعِلْمِ جَعَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِيزَانًا لِلتَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ قالَ تَعَالَى:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر: [9] وقالَ سُبْحَانَهُ:(أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الرعد: [19].
عِبَادَ اللهِ: بَعْدَ غَدٍ تُشْرِقُ في بِلادِنَا شَمْسُ عَامٍ دِرَاسِيٍّ جَدِيدٍ، وتَسْطعُ مَعَهُ أَنْوَارُ المعْرِفَةِ في رُبُوعِ أَوْطَانِنَا، فَتَفْتَحُ صُرُوحُ الْعِلْمِ أَبْوَابَهَا، وَيَغْدُو إِلَيْهَا الطُّلابُ وَالطَّالِبَاتُ بِعَزَائِمَ وَثَّابَةٍ، وخُطىً ثَابِتَةٍ، وَشَغَفٍ مُتَّقَدٍ، نَحْوَ قَاعَاتِ الدِّرَاسَةِ، ومراكز التعليم ومختبراته.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَبَدْءُ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ فُرْصَةٌ لاسْتِذْكَارِ النِّعَمِ، وَشَحْذِ الْهِمَمِ، والتَّذْكِيرِ بِالْوَاجِبَاتِ والتَّوَاصِي بِالْخَيرِ والنُّصْحِ لِلْغَيرِ، وَحَوْلَ بَدْء الْعَام الدِّرَاسِيِّ أُذَكِّرُ بِمَا يَلِي:
أولًا: إنَّ أَفْضَلَ مَا نَسْتَقْبِلُ بِهِ العامَ الدِّراسيِّ الجديدَ، إِخُلاصُ النِّيَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ وتَحْقِيقُ التَّقْوَى في الأَقْوَالِ والأَفْعَالِ، فَالْعِلْمُ النَّافِعُ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ تَقْوَى اللهِ عزَّ وجَلَّ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة: [282].
ثانيًا: إنَّ هَذِه المدارسَ والجامعاتِ جُعلتْ لِنَشْرِ الْعِلْمِ، ودَفْعِ الْجَهْلِ وتَرْبِيَةِ النَّشْءِ فَهِيَ حِجَابُ الْفِتْنَةِ، وَمَهْدُ الْحِكْمَةِ، وضمانُ الأمنِ، وسلاحُ السِّلْمِ، قالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ فِي بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ قَلَّ الشَّرُّ فِي أَهْلِهَا، وَإِذَا خَفَى الْعِلْمُ هُنَاكَ ظَهَرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا) إعلام الموقعين (2/182).
ثالثًا: إنَّ بلادَنَا تضعُ العِلْمَ رَكِيزَةً أساسِيَّةً، وحَجَرًا أَصِيلًا في البناءِ والتَّقَدُّمِ، وولاةَ أمرِنَا -أيَّدَهُم اللهُ- يُولُونَ العِلْمَ مكانةً خاصَّةً، وينْفِقُونَ بسخَاءٍ لا نَظِيرَ لهُ في إِنْشَاءِ وتطويرِ محاضِنِ التَّعْلِيمِ مِنْ مَدَارِسَ ومَعَاهِدَ وجامعاتٍ ويَضَعُونَ الرُّؤَى المستقبليةَ والخِطَطَ التَّنْمَوِيَّة، ويهتمُّونَ بالتطويرِ في الآلياتِ والتَّقْنِيَّاتِ، ومواكبةِ المستجداتِ؛ لتؤتِي العمليةُ التعليميةُ أُكُلَهَا في تَنْشِئَةِ جيلٍ يَتَمَيَّزُ بِالْوَعْيِ، وسَلامَةِ الْفِكْرِ.
رابعًا: اعْلَمُوا -رَعَاكُم اللهُ-أَنَّ المعُلِّمِينَ والمعَلِّمَاتِ، أَوَّلُ رَكَائِزِ الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، فَهُمْ وِعَاءُ الْعِلْمِ، وَوَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، شَرَّفَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ بِالْعِلْمِ، فَأَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ واقْدُروا لِلْمُعَلِّمِ قَدْرَهُ، واحْفَظُوا مَكَانَتَهُ، واحْذَرُوا إِهَانَتَهُ.
وَرِسَالَتِي لِلْمُعَلِّمِينَ وَالمُعَلِّمَات: اعْلَمُوا أنَّكُمْ مُسْتَأْمَنُونَ عَلى ثَغْرٍ عَظِيمٍ، فأَحْسِنُوا حِرَاسَتَهُ، وَأَبْشِرُوا بِالْخَيرِ إِنْ أَخْلَصْتُمْ النِّيَّةَ، وأَتْقَنْتُمْ الْعَمَلَ، قَالَ ﷺ: (إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ) أخرجه الترمذي (2685) وصححه الألباني.
أيُّهَا المعلمونَ والمعلمات: يُقبِلُ عليكمْ بَعْدَ غَدٍ أَوْلِيَاءُ الأُمُورِ، فَيُودِعُونَكُمْ فَلَذَّاتِ أَكْبَادِهِمْ، فَارْفُقُوا بِهِمْ، وَتَوَدَّدُوا إِلَيْهِمْ، وَاصْبِرُوا عَلَيْهِمْ، ابْدَأُوهُمْ بِالبَشَاشَةِ وأَشْعِرُوهُم بِالْحَفَاوَةِ، واعْلَمُوا أَنَّ أَعْيُنَ الطُّلابِ عَلَيْكُم، تُسَجِّل كُلَّ حَرَكَاتِكُمْ وسَكَنَاتِكُمْ، وأَلْفَاظِكُمْ، ونَظَرَاتِكُمْ، وَرُدُودَ أَفْعَالِكُمْ، فَكُونُوا قُدْوَةً لَهُمْ في الأَخْلاقِ وَعَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْجِدِّ والاجْتِهَادِ، والْتَمِسُوا في الْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ مَا يُسَايِرُ العَصْرَ ويَخْدِمُ الْفِكْرَ، فَيَسْهُلُ الدرسُ، وتَصِلُ المعلومةُ، دون خللٍ أو شطط.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء:[113]
بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الحمدُ للهِ ربِّ الْعَالمينَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعـدُ: فإنَّ رِسَالَتِي للآباءِ والأمَّهَاتِ: أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ عَلَيْكُم الْكِفْلَ الأَكْبَرَ، والنَّصِيبَ الأَعْظَمَ فِي الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ والتَّرْبَوِيَّةِ، فَاجْأَرُوا إِلى رَبِّ الْعِبَادِ، وَاسْأَلُوهُ الإِعَانَةَ والسَّدَادَ، وَكَمَا تَحْرِصُونَ عَلَى ألا يَتَخَلَّفَ أَبْنَاؤُكُم عن الدِّرَاسَةِ، فَاحْرِصُوا كذَلِكَ ألا تُخَلِّفُوهُم فِي الْبُيُوتِ وَقْتَ الصَّلاةِ، وَكَمَا أَيْقَظْتُمُوهُم فِي وَقْتِ الدِّرَاسَةِ، فَأَيْقِظُوهُمْ لِصَلاةِ الْفَجْرِ واجْعَلُوهُمْ فِي ذِمَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وأخيرًا أقولُ لأبْنَائِي وبَنَاتِي مَنَ الطُّلابِ والطَّالِبَاتِ: اعْلَمُوا -رَعَاكُم الله- أنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ المطَالِبِ، وأَعْلَى الموَاهِب، بهِ يَرْتَفِعُ شَأْنُكُم، ويُخَلَّدُ ذِكْرُكُم، وتُحْمَدُ آَثَارُكُمْ، فَأَقْبِلُوا عَلَيْهِ إِقْبَالَ الظَّمْآنِ عَلى المَاءِ، وتَحَلُّوْا بِآَدَابِ طُلَّابِ الْعِلْمِ، واعْلَمُوا أَنَّ الْوَقْتَ سِلاحُ طَالِبِ الْعِلْمِ، فَهُوَ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ، وَأَعَزُّ مَفْقُودٍ، فَاحْذَرُوا مِنْ صَرْفِهِ فِيمَا لا يَنْفَع.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَجْعَلَ عَامَكُم الدِّرَاسِيَّ عَامَ تَوْفِيقٍ وتَحْصِيلٍ وَبَرَكَةٍ، وأنْ يَرْزُقَكُم صَفَاءَ الذِّهْنِ، وسَلامَةَ الْفَهْمِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. الجمعة 28 /2 /1447هـ