وقفات مع "سن التكليف"

أيُّها المؤمنون.. العبادةُ هي الحكمةُ التي خلق اللهُ الإنسانَ من أجلها، فما أعظمَها من حكمةٍ وما أجَلَّها من غايةٍ، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ولما كان وجودُ الإنسانِ في هذه الحياةِ من أجل أن يكونَ عبدًا للهِ، كانت العبادةُ هي الدعوةُ التي نادى بها كلُّ نبيٍّ قومَهُ، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾.

وأعظمُ العباداتِ عندَ اللهِ وأجلُّها هي أركانُ الدينِ ومبانيه العظامُ: التوحيدُ، الصلاةُ، الزكاةُ، الصومُ، وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ. خمسةُ أركانٍ لا يتمُّ إسلامُ المرءِ إلا بها، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ﴿بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ﴾ متفقٌ عليه.

ولقد جعلَ اللهُ سبحانهُ للعباداتِ شروطًا، فإذا توفرت دخلَ المسلمُ في دائرةِ التكليفِ ووجوبِ الأداء، فكان مكلفًا بما أمرَ اللهُ به سبحانه، وأمرَ به رسولهُ عليه الصلاةُ والسلامُ، ومن لم تتحقق فيه الشروطُ كان خارجًا عن التكليفِ معفيًا من الواجباتِ برحمةٍ من اللهِ وفضل.

فالصغيرُ خارجٌ عن التكاليفِ الشرعيةِ، فلا يجبُ عليه الصلاةُ والصومُ والحجُّ، وكذلك من فقدَ عقلهُ بمرضٍ أو جنونٍ فليس عليه تكليفٌ ولو بلغ مائةَ عامٍ إذا كان عقلهُ زائلًا، سواءٌ سُمِّي جنونًا أو معتوهاً، وكذلك من فقدَ عقلهُ بمرضٍ لا يعي ولا يدرك معه فقد ارتفع عنه التكليفُ.

أما الزكاة أيها الأحبة: فهي واجبةٌ على الصغيرِ والمجنونِ، فتجبُ عليهما الزكاةُ لأنها حقُّ المالِ، فيخرجُ الزكاةَ عن الصغيرِ والمجنونِ وليه إذا وجبت في المالِ.

فلا تجبُ العباداتُ إلا بالتكليفِ، والتكليفُ لا يحصل إلا بأمورٍ ثلاثة:

إكمالُ خمسةَ عشرَ سنةً هجريةً.
وإنباتُ الشعر حول الفرجِ، للرجلِ والمرأةِ.
أو إنزالُ المني عن شهوةٍ باحتلامٍ أو بغيره.
وهناك رابعٌ في حق المرأةِ: وهو الحيضُ، فإذا حاضت ولو كانت بنتًا لتسع أو عشر سنين تكونُ امرأةً مكلفةً، تجبُ عليها الصلاةُ والصومُ والحجُّ مع الاستطاعة.

أما قبلَ البلوغِ فإنهُ الصغيرُ يؤمرُ بالعبادةِ ويُشجَّعُ عليها، وإذا بلغ سبعًا يُؤمرُ بالصلاةِ، وإذا بلغ عشرًا فللوَلي أن يضربَهما ويؤدبهما إذا تخلفا؛ لأن النبيَّ ﷺ قال: ﴿مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمِضَاجِعِ﴾ رواه أبو داود، ويُؤمرُ الصغيرُ بالصوم إذا كان يطيقه حتى يعتاد الخير، وفي البخاري تقولُ الرُّبَيّعُ بنتُ مُعَوِّذ: كنا نصومُ صبياننا، ونجعل لهم اللعبةَ من العهنِ، فإذا بكى أحدهم على الطعامِ أعطيناهُ ذاك حتى يكون عند الإفطارِ.

وهكذا سائرُ العباداتِ، فإن الصغير يُربَّى عليها، ويُرَغَّب فيها وتحبَّب إليه، وكذلك في المنهياتِ والمعاصي فيُنهى عنها وتُكرَهُ له ويُبينُ له شؤمها.

أيها الأحبة: وإن مما يتساهل فيه الآباء، ويغفل عنه البعض، عدمُ أمر من بلغ ودخل سنَّ التكليفِ بالعباداتِ، بحجةِ صغره، أو عدمِ نضجه واكتمال عقله، ومعاملته بالطفولةِ، وتسميةُ مرحلته بالمراهقة، علمًا أن المراهقة مصطلحٌ غيرُ شرعي، فالذكرُ إما صبيٌّ غير مكلف، أو رجلٌ مأمورٌ مكلف، وكذلك المرأة.

واللهُ سبحانه هو خالقُ الإنسانِ، وهو أعلمُ بما يصلحهم، ومتى يجب عليهم الأمرُ والتكليفُ، فإذا بلغَ الصغيرُ فقد أصبح رجلاً، يأثمُ بترك الواجباتِ، ويُعاقب بالحدِّ والتعزيرِ إن وقع في المخالفاتِ والمحرماتِ. عرضَ عبداللهُ بنُ عمر رضي الله عنهما يومَ الخندقِ للجهادِ مع رسولِ الله ﷺ وكان ابنَ خمس عشرة سنةً فأُجيزَ، ولم يُجز يومَ أحدٍ وكان عمرُه أربعَ عشرة سنةً، وجاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كتب إلى أمرائه: أن لا يضربوا الجزيةَ إلا على من جرت عليه المواسي، ولما غدر يهودُ بنو قريظة، عرضوا على رسولِ الله ﷺ، فكلُّ من أنبت منهم قتلهُ.

فكيف يتساهل الشبابُ بأوامرِ الله تعالى وقد أصبحوا رجالًا بلغوا سنَّ التكليفِ والأمرَ بأداء العباداتِ، وكذلك الفتاة ربما استهانت بأوامرِ الله تعالى، وقد أصبحت امرأة دخلت دائرةَ التكليفِ بحيضتها، ولو كانت بنت عشرِ سنينَ، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رأيت جدةً في مصر عمرها إحدى وعشرين سنة، قالوا: حاضت في تسع، ثم تزوجت بعد حيضها.

ويقول النبي ﷺ: ﴿لا يُقْبَلُ اللهُ صَلاةَ حائضٍ إلاّ بِخِمارٍ﴾ رواه أبو داود والترمذي وأحمد.


الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: كيف للآباء أن يهملوا من تحت أيديهم، ولا يُقدِّروا ما وصلَ أبناؤهم إليه، وما علموا أن بوصولهم سنَّ التكليفِ يجرى القلمُ للحساب، ويُؤاخَذُ على الذنوبِ والعصيانِ.

وإن أعظم ما يُؤمر به من بلغَ، وأول ما يؤديه الرجل الذي دخل ضمن أوامرِ الله تعالى هي أركانُ الدينِ، وأعظمُ الأركانِ الصلاةُ عمودُ الإسلامِ، فقد أصبحت الصلاةُ واجبةً في حقه، قال رسولُ الله ﷺ: ﴿بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ﴾ أخرجه مسلم.

ومن الفرائضِ اللازمة، وأركانِ الدينِ الواجبةِ الحجُّ لمن استطاع إليه سبيلا، وكم من شابٍ وفتاةٍ بلغوا سنَّ التكليفِ، ولم ينوِ الذهابَ لحج بيتِ الله الحرامِ، بل لم يخطرْ ببالِ والديه أن يعينا أبناؤهم لهذا الركن العظيم.

ومن الأمور التي يعيها الوالدان إذا دخل أولادهم سنَّ التكليف؛ ما أمر به الرسول ﷺ بقوله: ﴿وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمِضَاجِعِ﴾ ففي هذا السنِّ تنمو غريزةُ الشهوةِ لديهم، فيأتي الإرشادُ من الرسول ﷺ إلى حفظِ الأعراضِ وذلك بالتفرقةِ بينهم في المبيتِ.

ومن الأمور التي تحفظ العرضَ وتربي من بلغَ على العفةِ تأديبهم على الاستئذانِ عند الدخول للغرفِ الخاصةِ كما قال سبحانه: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾.

المشاهدات 785 | التعليقات 0