وَقَفَاتٌ وفوائد مَعَ نِهَايَةِ الْعَامِ الْهِجْرِيَّ 1446هـ.

أ.د عبدالله الطيار
1446/12/27 - 2025/06/23 10:28AM

الحمدُ للهِ مدبِّرِ الأكوانِ ومقلب الأزمانِ،أحمدُهُ سبحانهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وأشْهَدُ ألّا إِلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعَالَى عَن الشَّبِيهِ والمَثِيلِ والنِّدِّ والْوَلَد، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرٍا، أمَّــا بَعْـدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة: [119].
أيُّهَا المؤمنُونَ: جَعَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في الكَوْنِ سُننًا دَقِيقَةً، وآيَاتٍ عَجِيبَة، تَنْطِقُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وتَتَحَدَّثُ بِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) آل عمران: [190].
عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ الآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ: تَتَابُع اللَّيل والنَّهَار، وتَوَالِي الشُّهُور، وتَصَرُّم الأَعْوَام، ومَا أَوْدَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهَا من اللَّطَائِفِ والأَسْرَارِ، والْبَلايَا والأَقْدَارِ؛ لتَكُونَ ذِكْرَى للذَّاكِرِينَ، وَتَبْصِرَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَبَلاغًا لِلْعَالمِينَ، قَالَ تَعَالَى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) النور: [44].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: نَقِفُ عَلَى أَعْتَابِ عَامٍ هِجْرِيٍّ؛ لِنَسْتَقْبِلَ عَامًا هِجْرِيًا جَدِيًدا، خُطْوَةً نودّعُ، وخُطوَةً نستقبلُ، صحائفُ تُطْوَي، وَأُخْرَى تُسَطَّرُ وَالْعَاقِلُ مَنْ يَسْتَقِي الدُّرُوسَ والآَثَار، وَيَسْتَنْبِطُ الحِكَمَ والأَسْرَارَ وَحَوْلَ انْتِهَاء الْعَام أُوجِزُ جُمْلَةً مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا:
أولًا: أَيَّامٌ قَلائِل وَتُطْوَى صَفْحَةُ هَذا الْعَامِ لكن السؤال عنها حاصل، والحساب عليها واقع، بِكُلِّ مَا حَوَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا قَدَّرَ فِيهِ مِنَ المصائبِ والمِحَنِ، والمؤمنُ يصبرُ ولا يجْزَعُ ويَشْكُرُ ولا يَكْفُرُ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ
ثانيًا: إنَّ انْقِضَاءَ الْعَامِ الْهِجْرِيِّ، يَنْفُضُ عَن المسْلِمِ غُبَارَ الْغَفْلَةِ؛ لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّ الأَعْمَارَ مَطِيَّةُ الآَجَالِ، وَأَنَّ الأَعْوَامَ وَالأَزْمَانَ مَنَازِلُ يَنْزِلُهَا الناسُ، فَيَشِبُّ الصَّغِيرُ، وَيَشِيبُ الْكَبِيرُ، وَيَجْرِي الْقَلَمُ، وَتُمْلأُ الصُّحُفُ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ يَسْأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ وَيَسْتَعِدَّ لمَا هُو آَتٍ، قَالَ تعَالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) الأنبياء: [1].
ثالثًا: انْقِضَاءُ العامِ الهجريِّ، فُرْصَةٌ للتَّذْكِيرِ بِحَقِيقةِ الدُّنْيَا، وسُرَعَةِ زوالِهَا، وتقلُّبِهَا بِأَهْلِهَا، وأنَّهَا مَمَرٌّ، ولَيْسَتْ مَقَرَّاً، تَفْنَى ولا تَبْقَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنَا في الدُّنْيَا إلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) أخرجه الترمذي (2377) وقال الألباني في صحيح الترغيب (3282): صحيح لغيره ومَتَى عَقِلَ المُسْلِمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ هَانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَتَرَكَهَا لأَهْلِهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الأَخِرَةِ وَجَدَّ فِي طَلَبِهَا، قَالَ تَعَالَى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) الشورى: [20].
رابعًا: إنَّ مَثَل الْعَامِ الْهِجْرِيِّ كَمَثَلِ المرَاقِبِينَ في لِجَانِ الاخْتِبَارَاتِ يَحْرِصُونَ عَلَى تَذْكِيرِ الطُّلابِ كُلَّ فَترَةٍ بِالْوَقْتِ المتَبَقِّي للاخْتِبَارِ؛ لِيَجِدَّ الْكسَوُلُ، ويَسْتَيْقِظَ النَّائِمُ، وَيَنْتَبِهَ الْغَافِلُ، قَبْلَ غَلْقِ اللِّجَانِ، وَانْتِهَاءِ الامْتحَانِ، وَحِينَهَا، فَازَ مَنْ جَدَّ وَاجْتَهَدَ وَخَابَ مَنْ تَقَاعَسَ وَانْتَكَسَ.
خَامِسًا: انْقِضَاءُ الْعَامِ الْهِجْرِيِّ فُرْصَةٌ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ عزَّ وجلَّ بالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، فَالتَّوْبَةُ وظيفةُ العُمْرِ، لمْ يَسْتَثْنِ اللهُ عزَّ وجلَّ منهَا أَحَدًا مِنَ المؤْمِنِينَ فَعَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: [31] وَقَالَ ﷺ: (واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً) أخرجه البخاري (6307).
سَادِسًا: انقضاءُ العَامِ الهِجْرِيِّ تَذْكِيرٌ بِنِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ عليْنَا، ولُطْفِهِ بِنَا، فَكَمْ مِنْ آَمَالٍ تَحَقَّقَتْ بِفَضْلِ اللهِ، وأُخْرَى تَأَجَّلَتْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ، كَمْ مرَّ عَلَيْنَا في هَذَا الْعَام مِنْ مَصَاعِبَ وشَدَائِدَ؟ وكمْ داهَمَتْنَا هُمُومٌ ومَصَائِبَ؟ فأَعْقَبَهَا فَرَجٌ، وتَلاهَا خيرٌ، وصَرَفَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ بفَضْلِهِ وكَرَمِهِ، فليسَت الْعِبْرة في ذاتِ الْبَلاء أو الرَّخَاءِ، إنَّمَا الْعِبْرَة في الموْقِفِ مِنْهُمَا، قالَ تَعَالَى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) الشرح: [5-6] وقالَ ﷺ: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) أخرجه مسلم (2999)
أيُّهَا المؤمنُونَ: إنَّ تِلْكَ الدُّرُوس والآَيَات، تنبيهٌ لكلِّ حصيفٍ لبيبٍ، وذكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، فاللهَ اللهَ في تَدَبُّر هذهِ الآَيَات، واسْتِقَاءِ تلكَ الدُّرُوس، وحَرِيٌّ بالمسلمِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا قَدْ فَاتَ، وَيَنْشَغِلَ بِمَا هُوَ بَاقٍ، وأنْ يُعِدَّ الزَّادَ لما هُو آتٍ، وأَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَوْمِهِ زَادًا لِغَدِهِ، وأنْ يَشْكُرَ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ مَدَّ في عُمرِهِ؛ لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ، فَيُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ، وَيَتُوبَ مِمَّا أَذْنَبَ، ويُحْسِنَ فِيمَا بَقِيَ.
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر:[18].
بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ وَلِيِّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ أمَّا بَعْدُ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ التَّاجِرَ اللَّبِيبَ إِذَا شَارَفَ انْتِهَاءُ عَامِهِ التُّجَارِي، جَمَعَ أَوْرَاقَهُ، وَأَعَادَ حِسَابَاتِهِ، وَرَاجَعَ مُدْخَلاتِهِ وَمُخْرَجَاتِهِ، وَهَكَذا المسْلِمُ الْحَصِيفُ فِي عَلاقَتِهِ مَعَ اللهِ عزَّ وجلَّ، يُوَدِّعُ العَامَ بِجلْسَةِ مُحَاسَبةٍ للنَّفْسِ، كَيفَ حَالهُ مَعَ الْفَرَائِضِ والْوَاجِبَاتِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنَ النَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ، هَلْ لَهُ وِرْدٌ مِنَ الْقُرْآَنِ والذِّكْرِ، يَقِيهِ الشُّبُهَات وَالْفِتن، أَمْ سَقَطَ في أَوْحَالِ الشَّبَكَاتِ، وَضَاعَ بَينَ بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ والمِنَصَّاتِ، وَمَا هُوَ حَالُ أُسْرَتِهِ وَمَنْ هُمْ تَحْتَ يَدِهِ، هَلْ عَلَّمَ وَقَوَّمَ وَشَجَّعَ، أَمْ أَهْمَلَ وَقَصَّرَ وَضَيَّعَ؟ فَإِنْ كَانَ خيرًا حَمِدَ اللهَ وَازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ، رَجَعَ واسْتَغْفَرَ وَتَابَ، قَالَ تَعَالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) طه: [82]. أسْأَلُ اللهَ أنْ يوفِّقَنَا لاسْتِدْرَاكِ الأَعْمَارِ قَبْلَ انتهاءِ الآجالِ، وأنْ يُجَنِّبَنَا الْغَفْلَةَ وَطُول الأَمَل. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَالمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، وَرِجَالَ أَمْنِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الجمعة 24 /12 /1446هـ

المشاهدات 395 | التعليقات 0