(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ )+ الزواج بنية الطلاق
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عباد الله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
معشر الإخوة: لقد نهى الله -جل وعلا- عن الفواحش في كثير من الآيات، وذكر هذا النهي في أعظم الوصايا، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151].
ما أَجْمَلَ هذا التعبيرَ: {وَلَا تَقْرَبُوا} والنهيُ عن قربان الفواحش أبلغُ من النهي عن مجرَّد فعلها، فإنه يتناولُ النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها، ثم عمم في النهي عن الفواحشِ الظاهرةِ والباطنةِ، الظاهر منها والخفي، ويشملُ المتعلِّقَ منها بالظاهر، والمتعلقَ بالقلب والباطن، لقد امتدح الله -جل وعلا- الذين يجتنبون الفواحش ولا يقربونها، قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36، 37].
نحن في زمنٍ سَهُلَتْ فيه أسبابُ إتيانِ الفواحشِ من الزنا واللواط ومقدماتهما، خطفٌ وابتزاز ومعاكسات وتحرشات، وأطفال منبوذون عند المساجد وبيوت الناس، كله بسبب هذه الفواحش، أُفٍّ لفاحشةٍ أفسدت قانون الحياة؟ أُفٍّ لنزوةِ ساعةٍ، وشهوةٍ عارمةٍ غيرِ محسوبةٍ ولا مسؤولةٍ، عِقابُها العارُ والنارُ.
الزنا كبيرةٌ من كبائر الذنوب، من أبشع الجرائم، وفاحشةٌ من أكبر الفواحش، ومُوبِقَةٌ من أخطر الموبِقَاتِ، تتجلى فيها هذه البهيمية المغرقة. جريمةٌ تُفقَد فيها الشهامة، وتَذهب بالمروءَةِ، يحل مكان العفاف فيها الفجورُ، وتقوم فيها الخَلاعة مقام الحِشمة، وتَطرد فيه الوقاحةُ جمالَ الحياءِ. إنها جريمةُ الزنا؛ كم جرَّعت من غصةٍ، وكم أزالتِ من نعمةٍ، وكم جَلَبَتْ من نِقمةٍ، وكم خَبأت لأهلها من آلامٍ منتظرةٍ، وغمومٍ متوقَّعة، وهمومٍ مستقبلة.
وفي الصحيحين عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «زِنَا الْعَيْنِ النَّظَرِ، وَزِنَا اللِّسَانِ المنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»([1]).
عقوبته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال كما في الصحيحين، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»([2]).
زاد النَّسائي في رواية: «فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ»([3]).
لقد اقترن حال الزاني بحال المشرك في كتاب الله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤْمِنِينَ} [النور:3].
الزنا مُحَرَّمٌ بقواطع الأدلة؛ في محكم القرآن وصحيح السنة وإجماع أهل الملة، بل إجماع أهل الملل. وفي صحيح البخاري في حديث المنام الطويل، وفيه أنه -عليه السلام- جاءه جبريل وميكائيل -عليهما السلام- قال: «فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ -أعلاه ضيق وأسفله واسعٌ- فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ ضَوْضَوا -أي صاحوا من شدة الحر- فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي»([4]).
فهذا عذابهم إلى يوم القيامة، عياذًا بالله، ولهذا تأملوا قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المؤْمِنِين} [النور:2].
أليسَ مِنَ السرِّ الذي يُلفتُ نظرَ العقلاء أن دينَ الإسلام -وهو دينُ الرحمةِ والرأفة حتى مع الحيوان- وقف هذا الموقف الشديد مع هؤلاء الزناة والزواني؟! أليس هذا الدينُ الذي يحب الستر ويدعو إليه يقيم هذا الحد على مشهد من المؤمنين؟! لماذا كل ذلك أيها الإخوة؟! إن الرأفة بالزناة ممن ثبت زناهم وتحققت جنايتهم إنما هي قسوةٌ على المجتمع، وقسوةٌ على الآداب الإنسانية، وقسوةٌ على الضمير البشري، بل قسوةٌ على حقوق الإنسان. إنَّ القسوةَ في الحدِّ أرأفُ ثم أرأفُ بالمجتمع مما ينتظره من شيوع الفواحش لتفسدَ الفطرة، وترتكس في حمأة الرذيلة ويعيش في بيئة الأدواء والأمراض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أمَّا بَعْدُ:
مَعْشرَ الإخوةِ: ما الذي صنعناهُ لحماية بناتِنا وأبنائنا من هذه الفواحش؟ هل إذا منع الوالد الابن أو البنت من الخروج ظن أنه قد أدى الواجب الذي عليه والأمانة التي سيُسأل عنها؟ وهل علم الأب والأم أهم الأسباب المانعة بإذن الله من سلوك طريق الفاحشة من النصح والتوجيه، والدلالة على النافع المفيد، وبذل الجهد في ذلك.
عبادَ الله: لنعلم أنَّ من أعظم أسباب انتشارِ الفواحش رَدَّ الأزواجِ الأَكْفَاءِ، «وَإِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كبيرٌ»([5]).
معشرَ الإخوة: ومن أعظم أسبابِ إتيان الفواحش السفر إلى بلاد يكثر فيها الانحلال والفساد، كم من عاقلٍ مَا عَرَفَ الفواحشَ ولا أتاها، وحينما سافر مرة سقط في بَراثِنِ هذا الداء، لقد أصبحت الأمهات تصرخُ من كثرة سفر أولادهن وتَغَيُّرِ أخلاقهم، والزوجات يعانين من علاقات أزواجهن المحرمة، ما الذي أصاب هؤلاء؟ أين خوف الله جل وعلا؟ أين الاستعداد للقائه؟ أين تهرب؟ إلى أين تفر يوم تُكشف لك أعمالك وترى النار ولا ترى إلا ما قدمتَ؟ عجبًا ثم عجبا من هؤلاء! ألا يتذكرون القبرَ والقيامةَ وشدةَ العذاب؟
وإن مما انتشر من الأمور المحرمة أن بعض الناس يسافر ليتزوجَ بِنِيَّةِ الطلاق، ثم يذهب إلى مكاتب خاصة ومسوقين معروفين ليزوجوه ويوهموه بعقد صوري، وهو يعرف أن هذه المرأة قد تزوجت قبل أيام ولم تُنْهِ عِدَّةَ طلاقها، وأنها غير عفيفةٍ، أو على الأقل يغلب على ظنه، وليعلم أن هذا كبيرةٌ من كبائرِ الذنوب، فلا يجوز الزواج بالفاجرة الزانية، قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤْمِنِينَ} [النور:3].
قال السعدي -رحمه الله-: (وأما الفاجراتُ غيرُ العفيفاتِ عن الزنا فلا يُباح نكاحُهُنَّ، سواء كن مسلمات أو كتابيات، حتى يتبن لقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يَتُبْ من ذلك، أن المقْدِمَ على نكاحه، مع تحريم الله لذلك، لا يخلو إما أَلَّا يكونَ ملتزمًا لحكم الله ورسوله، فذاك لا يكون إلا مشركًا، وإما أن يكون ملتزمًا لحكم الله ورسوله، فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنًا، والناكحُ زانٍ مسافحٌ، فلو كان مؤمنًا بالله حقًّا، لم يُقْدِمْ على ذلك، وهذا دليلٌ صريحٌ على تحريم نكاح الزانية حتى تتوبَ، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوبَ)([6]).
وسُئِلَ الشيح ابن عثيمين -رحمه الله- السؤال التالي: فضيلة الشيخ نحن لا نقدر على الزواج، ونريد أن نذهب إلى بعض البلدان ونتزوج بنية الطلاق، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب: (هؤلاء ذهبوا للزنا، فإذا فعلوا ذلك فهم زناة؛ لأن الذين أجازوا النكاحَ بنية الطلاق من أهل العلم إنما أرادوا الرجل الغريب الذي ذهب لغير هذا القصد، ذهب لتجارة، أو لطلب علم، أو لعلاج وبقوا هناك، فهنا اختلف العلماء: هل له أن يتزوج بنية الطلاق أم لا يجوز؟ فمنهم من جوَّزه، ومنهم من منعه، وأما أن يذهب لهذا الغرض فلا شك أن هذا زنا، وأنه لا يقول به أحدٌ من الناس أبدًا، ولو أن هؤلاء اتقوا الله لجعل لهم فرجًا ومخرجًا، لو أنهم فعلوا ما أرشدهم إليه الرسول –عليه الصلاة والسلام- حيث قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ»([7])، لكان خيرًا. هؤلاء ذهبوا بتذكرة ورجعوا بتذكرة، ونزلوا فنادق هناك قد تكون من أغلى الفنادق وأكثرها ثمنًا، وتزوجوا على شيء، ثم سيعودون، فهم في الحقيقة ذهبوا للزنا، فعليهم أن يتوبوا إلى الله -سبحانه وتعالى- وأن يتقوا الله تعالى، وأن يسترشدوا بإرشاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبلغهم هذا عني)([8]).
وإني أذكِّرُ الشباب والرجال بأنْ يتقوا الله في بناتِ المسلمين وأبنائهم، فإن الله لكَ بالمرصادِ، وتذكر أن لك أُسرةً وعَوْرَةً تخاف عليها، فلك زوجة ولك أبناء ولك أخت، فاتق الله فيهن، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ المؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
([1]) أخرجه البخاري (6/2438، رقم 6238)، ومسلم (4/2046، رقم 2657).
([2]) أخرجه البخاري (2/875، رقم 2343)، ومسلم (1/76، رقم 57).
([3]) أخرجه النسائي (8/65، رقم 4872).
([4]) أخرجه البخاري (6/2583، رقم 6640).
([5]) الترمذي.
([6]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/221).
([7]) أخرجه البخاري (2/673، رقم 1806)، ومسلم (2/1018، رقم 1400).
([8]) لقاء الباب المفتوح (133(.