ويؤثرون على أنفسهم ( وورد - pdf )
محمد بن سليمان المهوس
« ويؤثرون على أنفسهم »
محمد بن سليمان المهوس /جامع الحمادي بالدمام
1447/5/9
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الأَخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَعَانِي النَّبِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الأَصِيلَةِ، الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَدَعَتْ إِلَيْهَا سُنَّةُ سَيِّدِ الأَنَامِ، وَسَطَّرَهَا الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ: خُلُقُ الإِيثَارِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ وَحُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَرَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ.
وَالإِيثَارُ ضِدُّ الشُّحِّ؛ فَإِنَّ الْمُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ تَارِكٌ لِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ؛ وَهَذَا أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْجُودِ، وَالشَّحِيحُ حَرِيصٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدَيْهِ.
وَالإِيثَارُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [ الحشر: 9].
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِمَا عِنْدَ الرَّحْمَنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20].
وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [متفق عليه].
وَالإِيثَارُ مِنْ أَكْثَرِ الْعِبَادَاتِ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ وَتَقْوِيَةً لِلْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا»
[رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنة الألباني].
وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ مَرِضَ فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي عِيَادَتِهِ! فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَخْزَى اللهُ مَالاً يَمْنَعُ الإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ لِقَيْسٍ حَقٌّ، فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، قَالَ: فَانْكَسَرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ بَالْعَشِيِّ لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ. [تهذيب مدارج السالكين ص 642].
فَانْظُرُوا -عِبَادَ اللهِ- كَيْفَ تَوَثَّقَ الرِّبَاطُ وَتَجَمَّعَ الرِّفَاقُ يَوْمَ آثَرَ قَيْسٌ إِخْوَانَهُ بِمَالِهِ.
وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنَّ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الإِيثَارِ:
إِيثَارَ رِضَا الْخَالِقِ عَلَى رِضَا الْمَخْلُوقِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ» [رَواهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ الألباني].
وَلِهَذَا النَّوعِ مِنَ الإِيثَارِ عَلاَمَتَانِ تَدُلاَّنِ عَلَيْهِ، لاَ بُدَّ أَنْ تَظْهَرَا عَلَى مُدَّعِيهِ، وَهُمَا:
الأَوَّلُ: أَنْ يَفْعَلَ الْمَرْءُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَأْمُرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مَكْرُوهًا إِلَى نَفْسِهِ، ثَقِيلاً عَلَيْهِ.
الثَّاني: أَنْ يَتْرُكَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحَبَّـــبًا إِلَيْهِ، تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ، وَتَرْغَبُ فِيهِ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَبِهَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يَصِحُّ مَقَامُ الإِيثَارِ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مِنَ الأَعْمَالِ أَخْلَصَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الأَخْلاَقِ أَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الْحُصُولِ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ هُوَ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ للهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَا تُقَدِّمُهُ لأَخِيكَ مِنْ مَعْرُوفٍ وَبِرٍّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾
[ الإنسان: 8-9 ]
فَلاَ يَكُنْ إِيِثَارُكَ لِأَخَيِكَ رِيَاءً أَوْ سُمْعَةً، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ للهِ تَعَالَى؛ وِلْيَكُنْ شِعَارُكَ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٩٠١]
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ انْتَفَعُوا بِهَذَا الْعِلْمِ، وَمَا نُسِبَ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ» [إكمال تهذيب الكمال (1/ 185)].
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ– وَتَخَلَّقُوا بِخُلُقِ الْإِيِثَارِ ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعَطَاءِ والبَذْلِ، ونَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أنواعِ الصَّدَقَاتِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
وَهُوَ صُورَةٌ عَظِيِمَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّكَافُلِ الاجْتِمَاعِيِّ وَترَابطِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - : «إِنَّ الأَشْعَرِيِّين إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللّهُمَّ ارْزُقْنَا الـتَّحَلِّيَ بِالْخِصَالِ الْحَمِيِدَةِ ، وَالْقِيَمِ النَّبِيِلَةِ ، والْأَخْلاقِ الْعَالِيَةِ الْجَمِيِلَةِ .
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِينَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاء وَلا حَاسِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ ، وَوَفِّقْ جَمِيعَ وُلاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَل بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ .
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المرفقات
1761638269_ويؤثرون على أنفسهم.doc
1761638284_ويؤثرون على أنفسهم.pdf
 
                             
                             
             
             
             
             
                                 
                 
                     
                     
                         
                         
                     
                 
            
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق