{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا }

الخُطْبَةُ الْأُولَى

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [سورة آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [سورة النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [سورة الأحزاب: 70، 71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوْا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ كَفَاهُ، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَهُ أَهَانَهُ وَأَخْزَاهُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

بُعِثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْمِهِ هِدَايَةً، وَلِلْعَالَمِيْنَ رَحْمَةً، أَمَرَهُم بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَحَذَّرَهُمْ مِمَّا نَهَى اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة النحل: 90]، فَمَنِ اتَّعَظَ وَتَذَكَّرَ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ الرَّحْمَةَ بِرَحْمَتِهِ، وَمَنْ عَصَى وَتَكَبَّرَ أَذَاقَهُ اللهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ بِعَدْلِهِ.

أَلَا وَإِنَّ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، إكْرَامَ الضَّعِيفِ مِنَ الْأقْرَبِينَ، وَالْحَذِرَ مِنَ الْاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بَغْيًا أَوْ جَوْرًا، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمُ، وَالْمَرْأَةُ»، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةَ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ، أَيْ أُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِمْ، وَأُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ظُلْمِهِمْ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

وَلَمَّا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ الْيَتِيمُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ سَبَبًا فِي الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَبَخْسِ الضَّعِيفِ، وَضَيَاعِ الْحُقوقِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [سورة الفجر: 17 - 20].

قَالَ عِكْرَمَةُ رَحِمَهُ اللهُ: "التُّرَاثُ: هُوَ مَالُ الْمِيرَاثِ، وَاللَّمُّ: هُوَ يَجْمَعُ مَعَ نَصِيبِهِ نَصِيبَ غَيْرِهِ".

وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ قَسَّمَ اللهُ هَذَا الْمَالَ بِنَفْسِهِ – جَلَّ وَعَلَا-، فَلَمْ يَتْرُكْ لِلْمُجْتَهِدِ اجْتِهَادًا، وَلَا لِلظَّالِمِ تَأْوِيلًا، وَلَا لِصَاحِبِ الْهَوَى تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا هِيَ حُقُوقٌ مَعْلُومَةٌ، وَأَنْصِبَةٌ مَقْسُومَةٌ.

حَفِظَ الْإِسْلَامُ لِلْوَرَثَةِ حَقَّهُمْ، وَحَذَّرَ الْوَارِثَ وَالْمُوَرِّثَ مِنَ الْاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا قَسَمَهُ اللهُ لَهُمْ، صِيَانَةً لِلضَّعِيفَ وَمَنْعًا لِلَهْوَانِ وَالذُّلِّ، رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَديثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ»، قَالَ: فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ يَا سَعْدُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ».

هَكَذَا حَفِظَ الْإِسْلَامُ حَقَّ الْوَارِثِ، فَإذَا كَانَ الْمُوَرِّثُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَمْ يَمْضِ مِنْ صَدَقَتِهِ مَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ، بَلْ وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِوَارِثٍ قَطُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ التَّلَاعُبَ بِالتَّرِكَةِ، وَالتَّحَايُلَ عَلَى الْوَرَثَةِ جُرْمٌ عَظِيمٌ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَصَفَ اللهُ صَاحِبَهُ بِالْعَاصِي الْمُتَعَدِّي عَلَى حُدِودِ اللهِ، الْمُسْتَحِقِّ لِلْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كَيْفَ وَمِثْلُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فِيْهَا قَطْعٌ لِلْأَرْحَامِ وَإفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ.

إِنَّ الْمَوَارِيثَ وَهِي مِنْ أَوْضَحِ أَحْكَامِ اللهِ بَيَانًا، هِيَ مِنْ أَكْثَرِ الْأَمْوَالِ خِصَامًا، فَامْتَلَأَتِ الْمَحَاكِمُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي التَّرِكَاتِ، حَتَّى خُصِّصَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الدَّعَاوَى دَوَائِرُ خَاصَّةً، تَفْصِلُ نِزَاعَهُمْ، وَتَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا حِينَ تَسَلَّطَ الشَّيْطَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَوْهَمَهُمْ بِحُقُوقٍ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى ظَنُّوا حَقًّا لَهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا أَمْوَالَ أَخَوَاتِهِمْ، وَحَرَمُوا أَيْتَامًا أَمْوَالَهُمْ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.

إِنَّ الْإِفْسَادَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ رِهَانُ إِبْلِيسَ، أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ، فَأَفْسَدَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَقَطَعَ الْأَرْحَامَ، وَخَلَقَ أَجْوَاءً مِنَ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ وَالْخِصَامِ، كَانَ مَالُ التَّرِكَةِ هُوَ مِفْتَاحُهَا، فَأَصْبَحَتِ الْأُسْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نِزَاعٍ يُتَوَارَثُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، كُلُّ ذَلِكَ وَاللهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ ذَلِكَ الْمَالِ بَيَانًا كَافِيًا شَافِيًا لَا اجْتِهَادَ بَعْدَهُ.

إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى قَدْرٍ مِنَ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَالْحَقُّ أكْبَرُ عَلَى مَنْ كَانَ أَقْوَى، أَنْ يَتَّصِفَ بِالشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَقَّافًا عِنْدَ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ.

عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ عِبْءَ قِسْمَةِ تَرِكَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ مُوَرِّثٍ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِي الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ آلِيَّةَ الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ جُهْدًا بَشَرِيَّا وَلَا فَلْسَفَةَ أَنْظِمَةٍ وَقَوَانِينَ، وَإِنَّمَا هِي قِسْمَةُ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَلَا مَجَالَ لِلتَّحَايُلِ، وَلَا لِلتَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا هِيَ حُدُودُ اللهِ تَعَالَى، إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.

وَمَنِ اسْتَحْضَرَ رَقَابَةَ اللهِ عَلِمَ خُطُورَةَ الْمَوْقِفِ، فَخَافَ مِنْ إِخْفَاءِ أَمْوَالِ مُوَرِّثِهِمْ أَوِ التَّلَاعُبِ بِالْوَثَائِقِ أَوِ الْوَكَالَاتِ، أَوْ إِخْفَاءِ الْوَصَايَا وَالدُّيونِ وَالْحُقُوقِ، وَخَافَ مِن اسْتِغْلَالِ جَهْلِ الْوَرَثَةِ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُقُوقِهِمْ، وبخَاصَّةٍ الصَّغَارِ وَالنِّسَاءِ، وَاسْتَعْجَلَ فِي قِسْمَةِ الْمَالِ، فَلَا يَضْطَرَّهُمْ عَلَى قَبُولِ الْقِسْمَةِ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ، وَلَا يُؤَخِّرِ الْقِسْمَةَ لِمَصَالِحَ مُتَوَهَّمَةٍ، وَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِي الْاسْتِعْجَالِ فِي أَدَاءِ الْحُقوقِ، وَالسُّرْعَةِ فِي إِبْرَاءِ الذِّمَمِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ مِنَ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ، وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [سورة النساء: 7].".

فَقَسَّمَ اللهُ تَعَالَى الْحُقوقَ، حَتَّى حَفِظَ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نَصِيبَهُ، وَمَنَعَ اللهُ الْمُوَرِّثَ مِنْ قَصْدِ الْإِضْرَارِ بِوِرَثَتِهِ فِي الدَّينِ أَوِ الْوَصِيَّةِ، يَقُولُ جَلَّ وَعَلَّا: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [سورة النساء: 12].

 أَيْ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ إِضْرَارَ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ فَعَلَ عُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ     أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالتَّرِكَاتِ جَاءَتْ مُحْكَمَةً مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، اِبْتَدَأَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [سورة النساء: 1]، وَعَطَفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ قَطْعِ الرَّحِمِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [سورة النساء: 1]، فَاتَّقُوْا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَتُقَصِّرُوا فِي حَقِّهَا، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ رَقيبٌ عَلَيْكُمْ، عَالِمٌ بِأَحْوَالِكُمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِكُمْ وَنَوَايَاكُم: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

وَلَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ التَّرِكَاتِ وَالْمَوَارِيثَ هِي مِنْ أسْبَابِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي ابْتِدَائِهَا وَفِي خَاتِمَتِهَا تَفْصِيلًا مُحْكَمًا لِلْمَوَارِيثِ، وَبَيَانًا لِلْأَنْصِبَةِ، وَإِيضَاحًا لِلْحُقوقِ، لِئَلَّا يَضِلَّ النَّاسُ وَيَطْغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ، يَقُولُ جَلَّ وَعَلَا فِي آخِرِ آيَةٍ فِي سورة النِّسَاءِ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة النساء: 176]، عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، وَعَلِيمٌ بِمَا تُخْفِيهِ نُفُوسُكُمْ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.

سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ فِي أَحْكَامِ الْقِسْمَةِ وَالتَّرِكَةِ، فَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، انْتِظَارًا لِلوَحْيِ، وَنُزُولِ حُكْمِ اللهِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة النساء: 176].

فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ يَتَذَكَّرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيَقُولُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أُطْلُبْ سَعْدَ بْنَ أَبِي الرَّبِيعِ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: فَطُفْتُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: عَلَى رَسُولِ اللهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي مِنَ الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خَلُصَ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ، ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ.

تَرَكَ سَعْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَوْجَتَهُ وَابْنَتَيْهِ، فَحَزِنَّ عَلَى فِرَاقِهِ أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَزَادَتْ مُصِيبَتُهُمْ بِالظُّلْمِ الَّذِي حَدَثَ لَهُمْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الْرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [سورة النساء: 11] فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيْ: "هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ هِيَ حُدُودُ اللَّهِ؛ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَلَا تُجَاوِزُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة النساء: 13]، أَيْ: فِيهَا  فَلَمْ يَزِدْ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ  يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء: 13، 14]، أَيْ  لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ؛ وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بِالإِهْانَةِ فِي العَذَابِ الأَلِيمِ المُقِيمِ"ا.هـ.

أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَعَجِّلُوا فِي قِسْمَةِ الْحُقُوقِ، وَلَا تُمَاطِلُوا وَلَا تَتَجَاوَزُوا وَلَا تَعْتَدُوا، فَإِنَّ الْقَلِيلَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، هُوَ عِنْدَ اللهِ كَبِيرٌ، وَحِسَابُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَسِيرٌ، يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاَةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِين» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُغْنِيَنَا بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ، وَأَنْ يَكْفِيَنَا بِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَأَنْ يُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ، وَقَلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ.

صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَوْلًا كَرِيمًا، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [سورة الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الْأَرْبِعة -أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- وَعَنْ سَائِرِ الآلِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرَحَمَ الرَّاحِمَيْنَ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عِبَادَ اللَّهِ:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة النحل: 90]، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

1738519853_{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}.docx

1738519853_{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}.pdf

المشاهدات 238 | التعليقات 0